- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
مفارقات سوق الدانا.. وزبونة صحفية
بين احتياجاتي وتفضيلاتي كزبون يبحث عن الأفضل والأرخص، ورغبتي الجارفة بالتعاطف والمساندة، ثم إحساسي بالمفارقات الفادحة في الشارع، تتنقل حواسي وأفكاري ومشاعري مع تنقلي بين محلات السوق في رمضان، محاولة التوفيق بين كل هذه المتنافرات.
كان الوقت عصراً حين اتخذت قراري بالخروج من المنزل لأتجول في شوارع مدينة الدانا شمال إدلب وأشتري بعض الحاجيات الضرورية، والعصر الرمضاني في مدينة صغيرة مثل الدانا قد يفهم منه البعض باعةً وصل بهم اليأس إلى حالةٍ تفضّل البيع بأي ثمن على انتظار المفاضلة التي يقيمها الزبائن بين سعر البضاعة وما في جيوبهم من نقود، حتى لو كانت نية الزبائن للنزول في هذا الوقت بحثاً عن السعر الأرخص مكشوفة، لكن باعتقادي كإحدى الزبائن المطلعين على الأسعار بشكل يومي، فإن هذا الفهم خاطئ ودون جدوى، فالأسعار لم يسبق لها أن نزلت حتى اللحظة.
أصوات مناداة الباعة الساعين للفت انتباه المارة إلى بضائعهم هو أول ما يستقبل الشخص فور اقترابه من السوق، وبين الأصوات المزدحمة ترنّ أصوات طفولية ليس من الصعب تمييزها، كانوا أكثر من طفل يبيعون على بسطات متنوعة، طرقهم المتعددة لجذب الزبائن تخفي خلفها حاجتهم لبيع ما لديهم والذهاب إلى منازلهم قبل حلول موعد الآذان، اقتربت من أحدهم ذي تسع سنوات ويدعى عامر، يبيع المعروك على لوح خشبي صغير، بادرني حين سألته عن السعر "هناك عدة أنواع: المعروك المحشي بالتمر أو الجبن أو جوز الهند بعشر ليرات تركية، أما المعروك السادة بخمس ليرات تركية"، لم يخفِ سعادته البريئة حين طلبت منه بيعي بعض المعروك، وأثناء تجهيزها خطر في بالي سؤال نمطي بمنتهى السذاجة عن عمله بدل أن يكون في المدرسة، أجابني بطريقة من تعرض للسؤال كثيراً أو من ينتظره من صحفية تحاول أن تكون زبونة: "إن لم أعمل فكيف سنعيش أنا وأخوتي بعد وفاة والدي؟!“.
اخترت أن أكمل تسوقي من رجل عجوز يبيع الخضار على بسطة صغيرة إلى جانب الطريق على مقربة من طفل المعروك؛ لا يقوى على المناداة كغيره من الباعة ولا زبائن يقفون على بسطته المتواضعة المؤلفة من بعض صناديق من البطاطا، البندورة، الخيار، الكوسا، والبصل اليابس؛ عدم تنوع الخضار على بسطته لم تجذب زبائن فضلوا التوجه إلى المحال التي تتوفر فيها كل أنواع الخضار والفاكهة المتوفرة. حين اقتربت منه ترك الكرسي الحديدي الصغير الذي يجلس عليه، وراح يستقبلني بعبارات التأهيل والتسهيل؛ طلبت منه أن يزن لي بعض الخضار، فراح يحدثني عن حركة السوق الضعيفة، وفقر الناس وغلاء الأسعار الذي يلجمهم عن شراء أبسط احتياجاتهم، واختتم بـ"الله يعين العالم" تلك الجملة التي تقول للمستمع -من بين أشياء أخرى- يمكنك الصمت إذا أردت، الوضع سيء ولكن ما باليد حيلة.
على الجانب الآخر تجلس امرأة بثيابها المتسخة الرثة، في حضنها طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، يمر الكثيرون من أمامها دون اكتراث، وكأن لسان حالهم يقول "نحن بحاجة للمساعدة أكثر منك"، فقط قلائل من يرمون لها نصف أو ربع ليرة تركية؛ علا صوتها بترديد الدعاء عندما اقتربتُ، لكن علامات الحزن على وجهها المتعب صارت أوضح عندما اقتربت أكثر، تظهر فيها السبل المتقطعة والعجز عن تحمل أعباء المعيشة بمفردها مع خمسة أبناء بينهم معاق وزوج عاجز. ورغم وضعها، فقلما تجد مساعدة من المنظمات والجمعيات الخيرية التي لم تعد تساعد إلا أصحاب ”الواسطات“.. هكذا تعتقد.
يعج السوق بمظاهر بيع العرقسوس والتمر هندي والمعروك والسمون وأنواع الحلويات وخبز التنور. تبعث في نفوس المارين الحنين للمظاهر الرمضانية التي عاشوها في بلداتهم وقراهم، إذ بات معظم سكان الشمال السوري من النازحين والمهجرين، وقليلاً ما يلتقي المرء أشخاصاً من المنطقة ذاتها. كما يعج السوق بعمال المياومة الذين يرتدون ملابس العمل، وقد بدا عليهم العطش بعد جلوسهم في الشارع لساعات طويلة بانتظار من يأتي لاصطحابهم لعمل ما مقابل أي أجر يعينهم على العودة إلى أسرهم بأغراض دفعوا ثمنها من كسبهم وليس بالدين.
وبينما يهم للمغادرة، أخبرني أحدهم، أو أخبر الصحفية التي يعرفها، أن النهار مضى ولم يحصل على فرصة عمل؛ أعرف أنه سيعود في الغد وبعد الغد.. "مهما كانت الأجرة زهيدة، فلا خيار".
لم أستطع منع مقولة لطه حسين من أن تطفو في مياه ذاكرتي، أنه "مهما يبلغ الفقر بالناس، ومهما يثقل عليهم البؤس، ومهما يسيء إليهم الضيق، فإن في فطرتهم شيئاً من كرامة تحملهم على أن يجدوا -حين يأكلون مما كسبت أيديهم- لذة لا يجدونها حين يأكلون مما يساق إليهم دون أن يكسبوه أو يحتالوا فيه"، لكنها تلاشت بمجرد أن مررت بمطاعم اللحم المشوي التي بات ارتيادها بمثابة حلم، وأمامها بعض السيارات الفاخرة التي توحي أشكال أصحابها بلحاهم الطويلة وملابسهم العسكرية وأسلحتهم التي لا تفارقهم، أنهم يتبعون لـ“الهيئة“، بينما توحي أناقة بعضهم اللافتة بلباسهم المدني، أنهم من موظفي منظمات المجتمع المدني و“حكومة الإنقاذ“.
صادفت في طريق العودة جارتي الأربعينية وفاء وقد عادت من السوق خالية الوفاض دون أن تشتري شيئاً، كانت قد وعدت أطفالها بشراء الدجاج وبعض الحلوى، تساءلت في نفسي ما الذي حدث لتعود بخفي حنين، هزت رأسها لتخبرني بلهجة حزينة وكأنها لاحظت فضولي، أو فضول الصحفية.. “السعر الذي يتم تحديده بالأمس يلغى اليوم، لم أعد أستطيع مجاراة الأسعار".
دخلت المنزل وقد اقترب أذان المغرب، لم يكن كل أفراد الأسرة مجتمعين على مائدة الإفطار كما السابق، هناك الشهيد والمعتقل والمهجر، جلست مع البقية وأطياف الغائبين، ننتظر المؤذن وطبق المجدرة من جارتنا وفاء.