(أنت أنت الدمّرتنا).. رغم الجانب الساخر في هذه العبارة، التي انتشرت عبر مقطع فيديو لأحد مقاتلي الجيش الحرّ وهو يمازح شاباً مجنوناً، إلا أنها تحمل، حين تتردد بين أهالي مدينة دير الزور، شحنةً كبيرةً من القهر والشعور بالغبن، وبخيانة جميع الأطراف السياسية والعسكرية لأهداف الثورة وللشعب. وقد أصبحت مثل هذه العبارات مصطلحاتٍ تحمل مفتاحاً سرّياً يختصر الكثير من الدلالات والألغاز المتفاهم عليها شعبياً. فشكّلت، إلى جانب كلماتٍ ومفاهيم وتراكيب أخرى، ما نستطيع أن نطلق عليه معجم الثورة الشعبيّ.
وقد تعدّدت المصادر التي استقى منها الأهالي مصطلحاتهم، وأهمها الواقع المعاش ووسائل الإعلام والاختصاصيون، وبدرجةٍ أقلّ الأحزاب والتنظيمات والهيئات التي أفرزتها الثورة.
عن الحرب وأدواتها:
شكلت الخدمة الإلزامية، التي خضع لها قسمٌ كبيرٌ من الرجال، معيناً نهل منه الأهالي تسمياتٍ لما واجهوه من أسلحةٍ في قمع الثورة. عرفوا في البداية (الكلاشينكوف، آر بي جي، الدبابة)، فراحوا يطلقونها على كافة الأسلحة التي استعملها النظام، دون تمييزٍ بينها. ومع ظهور السلاح بين فئاتٍ معارضة، وبروز ظاهرة المنشقين –دون إغفال الدور المهمّ الذي لعبه الإعلام– أصبح الأهالي، بعد معاينةٍ قريبة، يميّزون، وبحسب الصوت والانفجار، بين الأسلحة المتوسطة والثقيلة. فتُدوولت مسمّياتها بلهجةٍ محلية، من مثل (12,5 اثنعش ونص)، (14 أربعطعش)، (صاروخ أرض أرض أبو شخرة)، وغيرها. كما انتشرت تسمياتٌ تميّز أنواع بارودة الكلاشينكوف (أم السواجي، أم الصاروخ، تبوكية، بن لادن). ثم أصبح الطيران يقسّم، بحسب صوته وشكله، إلى (حربيٍّ ومروحيّ). ويجلب معه إما التحليق (للاستطلاع) والتخويف فيخرق معه (جدار الصوت)، أو أن يلقي أربعة صواريخ في (الغارة) الواحدة ويرحل.
وبسبب تعقيد العلاقات الاجتماعية، والحاضنة التي يملكها مقاتلو الجيش الحرّ، فقد أضافوا إلى أحاديث المدينة اليومية مصطلحات تكتيكٍ عسكريٍّ مستوحاةً من الجيش النظاميّ، لكنها راجت إلى حدٍّ بعيد، مثل: (اشتباك، قطاع، طلاقية، نوبة، تمشيط، منطقة محرّرة، كمين). ومع امتداد الحرب أصبح الحرّ ينتج مصطلحاته الخاصة لسلاحه محليّ الصنع، فظهر مدفع أبو كطنة (مدفع هاون يستعمل القطن في حشوته الدافعة)، صاروخ محليّ، مدفع جهنم (جرة الغاز)، جلكانة (أسطوانة محشوة بالـ ت ن ت)، اكرة (قنبلة محلية الصنع)، القبضة (جهاز اللاسلكي). وتطلبت (حرب الشوارع) التي استعملها الحرّ لإنهاك الخصم نوعاً من السرّية، فأطلق أسماء جديدةً على الحارات التي (يرابط) فيها، مثل (العين الساهرة) و(باب الحارة).
صبّ من دمك للحرية:
ما زالت الفترة السلميّة هي الثورة المثالية بالنسبة إلى الكثير من الأهالي في المدينة. فيتذكرونها بمزيدٍ من التقدير والإعجاب والتحسّر على انقضائها. ويعدّونها من الماضي الجميل الذي يتداولون ذكرياته في مجالسهم. وما زال بعضهم متمسكاً بسلميته. وهؤلاء، ممن يُطلق عليهم (جماعة صبّ من دمّك للحرية)، ساهموا في الإبقاء على مصطلحات العمل السلميّ في حيّز التداول، مثل: (ناشط، مشفى ميداني، منظمة، إعلامي، داعم، مجلس محلي، حلّ سياسي). أما باقي مفردات تلك المرحلة، كالهتّيف (من يردّد المتظاهرون هتافاته)، والثورجي، والمظاهرة الطيارة؛ فقد انحسر استعمالها بسبب ظروف الحرب، وخشية الناس من ردّة فعل تنظيم الدولة عليها.
ولكن الحـصّة الأكبـر بيـن المصطلحات التي ساعد الناشطون في إدخالها كانت في المجال الإغاثيّ، بسبب الحاجة الماسّة التي تعصف بسكان المدينة في ظلّ الحصار والحرب. فهناك المنظمة والمطبخ المجانيّ والسلة الغذائية والمعونة (يلفظها البعض معينة). كما أطلقت تسمية (بيت شباب) للدلالة على أن البيت تسكنه مجموعةٌ من الناشطين أو المقاتلين، و(بيت نازحين) وتلحق بالعبارة المنطقة التي جاؤوا منها.
ورغم التلاقح الثقافيّ الذي تمارسه وسائل الإعلام والمثقفون والناشطون يبقى للثقافة المحلية طابعها الخاصّ الذي أفرز مصطلحاته، كالمعبار (مكان العبور في ظل الحصار)، والعوايني أو الداسوس (المخبر أو الجاسوس)، والزاجل (المقاتل من الريف)، والدعدوشي (العنصر في تنظيم الدولة)، وخلف (رامي مدفعية النظام)، والعرعورية (سيارة مهرّبة)، والنفّيطة (من يعملون في بيع النفط وتكريره بالحرّاقات). كما عادت الأسماء القديمة للأماكن إلى التداول، بعد أن كان استعمالها مقتصراً على كبار السن، كما في (الجسر اليوغسلافي – بدل السياسية في ظلّ النظام)، (القشلة – بدل الهجانة)، (الاعيور – بدل البعث).
مع تنظيم الدولة:
منذ عسكرة الثـورة والكـتائب الإسلامية تؤسّس امتداداً لها عبر النشاطات الاجتماعية المتعدّدة التي تمارسها أو تهيئ لها، كالمحاضرات وحلقات التعليم في المساجد، مما أسهم في نشر المفاهيم والمصطلحات التي تتداولها هذه الجماعات، كالبيعة (كانت تعني الالتزام بأوامر القائد الميدانيّ)، والأنصار (العناصر الذين يقدمون المساندة والدعم)، والدعوة (كان يفهم منها الإقناع في المرتبة الأولى)، والغنائم (التي ارتبطت عند البعض بالصالح العام، واعتبرها البعض الآخر حقاً شخصياً). ومما ساعد في تناول الأهالي لتلك المصطلحات، التي لم تغب يوماً عن أحاديثهم في الماضي، هو أنها تنهل من الذاكرة الجماعية المرتبطة بالدين الإسلاميّ. ثم، شيئاً فشيئاً بدأ يظهر (المهاجرون) وهم يربطون (حزاماً ناسفاً)، والذين اتفق الجميع على أن (الجزراويين – السعوديين) أفضلهم.
وفي ظلّ الخلاف بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة راجت مفردات (المرتدّين والمرجئة والتمكين والأمير والخلافة) بين الناس من مناصري هذا التيار أو ذاك، مع الكثير من التشوّش والتذبذب والاستغراب، بل وربما التندّر. واليوم ما زال الكثير من الأهالي يطلقون تسمية (داعش) سرّاً على تنظيم الدولة، خوفاً من العقوبة المترتبة على ذلك. ويناقشون المصطلحات الجديدة التي أدخلها إلى حياتهم بمزيجٍ من الترقب والاستهجان، من مثل (شيخ – تقال لأيّ شخص)، (استتابة – مراجعة أحد شرعيّي التنظيم لتسوية الأوضاع)، (تزكية – توصية من أحد الثقات)، (الحسبة – دورياتٌ راكبةٌ تبحث عن المخالفات في مسائل التدخين وزيّ النساء والصلاة على وقتها)، (دوغما أو العروس – السيارة المفخّخة).
رغم أن الظروف القاسية والاستثنائية تؤثر في اللغة إلى أبعد حدّ، لكن يبقى لمزاج الشعب وثقافته التأثير الذي لا يستهان به عليها.