تطلّ براميل النظام اليوم على مدينة دير الزور، لتعود بالأهالي إلى ذكرى حملة الحرس الجمهوريّ في نهاية 2012، وما خلفته من ضحايا ودمار كبيرٍ. لكن ذلك الطيران الذي يأتي بالبراميل لا يدفع عناصر تنظيم الدولة إلى إخلاء مقرّاتهم، كما يفعلون عادةً في مدنٍ أخرى. وإذا كان طيران النظام قد خصّص حصّةً كبيرةً من غاراته لضرب الجبهات المشتعلة كحويجة صكر ومحيط المطار، وخطوط إمداد التنظيم، فإن عناصر الأخير لا يبدون مكترثين كثيراً لهذه الغارات كاكتراثهم بغارات التحالف في الميادين والبوكمال وغيرهما.
يبدو تأثير القصف جلياً على حياة الناس في مدينة دير الزور، بدءاً بانتقاء جهة المساكن أو المحالّ، وحرصهم على استقبالها الشمال، لتجنّب قصف قطع النظام العسكرية المتمركزة جنوب المدينة، ولا ينتهي التأثير بأوقات تسوّقهم وتجمهرهم وأماكنهما؛ لكن الطيران يبقى خارج كلّ الحسابات، منذ استعماله كسلاحٍ لا يمكن للثوّار أو لحاضنتهم الاجتماعية تفاديه أو مقاومته بأساليبهم وأسلحتهم التقليدية. وقد شكّل إدخال الطيران في المعركة عاملاً أقنع الكثيرين آنذاك باستحالة إسقاط النظام. ومنذ انتهاء حملة الحرس الجمهوريّ على دير الزور، وتحوّلها إلى جبهةٍ باردةٍ بالنسبة إلى النظام، أصبح الطيران في الغالب سلاحاً للدفاع والردّ، باستهداف القرى والبلدات التي شكّل أهاليها قوام الفصائل المؤثرة على الأرض (كما حدث في العشارة وموحسن) بعد كلّ معركةٍ افتتحها الثوار، قبل استيلاء تنظيم الدولة على أراضيهم. وقد تكوّنت لدى الناس في تلك الفترة قناعاتٌ راسخةٌ عن استعمال النظام للطيران؛ فالطيارات التي تصيب أهدافها إما تعقّبت (شريحةً) ألقاها أحد أعوان النظام في مكان الهدف، أو أن قائد الطيارة ليس سورياً. كما اقتنعوا أن المكان الذي يصوّره الإعلام سيقصفه الطيران، بالإضافة إلى مقرّات الكتائب، والنت الفضائيّ. وقد قسّم الأهالي غارات طيران الأسد إلى ثلاثة أقسام: القصف الذي يستهدف مقرّات الكتائب ومكاتب الإعلاميين والمشافي، والقصف العشوائيّ بقصد إثارة الرعب والهلع وبالتالي تهجير السكان، وقصف التجمّعات كالأسواق والأفران، لزيادة عدد الضحايا، بدافع الانتقام.
واليوم، في ظلّ تنظيم الدولة، يتقاسم طيران التحالف والنظام سماء دير الزور، الأوّل لملاحقة "الإرهابيين"، والثاني للمحافظة على آخر نقطةٍ له في رقعةٍ تحيط بنهر الفرات، من شرقي حلب حتى البوكمال. وخلال الأشهر المنصرمة، ورغم ملاحقة الناشطين، والتضييق عليهم، والتعتميم على خسائر التنظيم؛ استطاع الإعلاميون التمييز بين الطيرانين بطرقٍ عدّةٍ، منها: أن طيران التحالف يحلّق عادةً في أسرابٍ، تسبقه طيارات الاستطلاع، ثم إن صوته -حين يطير على مسافاتٍ مرتفعة- يشبه الصفير، بخلاف الهدير الذي ميّز طائرات النظام، وانقضاضها عند القصف. بالإضافة إلى الكثير من الميزات التي تتمتع بها طيارات التحالف وتفتقدها مثيلاتها لدى النظام، كدقة الإصابة، واستهداف أكثر من نقطةٍ في وقتٍ واحد، وانفجار صواريخها القويّ.
ما زالت مدينة دير الزور جبهةً باردةً، في وقتٍ يختار التنظيم معاركه على أطرافها أو في محيطها (كمدفعية الجبل ومعسكر الطلائع وجبال ثردة). لكن ردّ النظام ما زال يقع على المدنيين، وباستخدام البراميل هذه المرّة. الأمر الذي حاول عناصر التنظيم توظيفه ضد التحالف، عن طريق الإشاعات التي تدّعي أنّ طائراته هي من يقصف المدينة، رغم أنّ التنظيم ردّ غير مرّةٍ على تلك الغارات بقصف المربع الأمنيّ في حي الجورة، ما أدّى إلى وقوع ضحايا بين المدنيين هناك. في حين يعتقد أغلب الناشطين والإعلاميين أنّ مدينة دير الزور ليست على جدول التحالف، لوقوعها على خطّ التماس مع النظام، وما يشكله قصفها من فرصةٍ سيستفيد منها النظام عسكرياً وسياسياً وإعلامياً إلى أبعد الحدود.
وما زالت أوساطٌ شعبيةٌ واسعةٌ تتحسّر على كثافة النيران التي كان الجيش الحرّ يواجه بها طيران النظام، مما كان يشعرهم بالأمان بغضّ النظر عن جدوى تلك الدفاعات. وهو ما يفتقدونه اليوم في ظلّ التنظيم.