- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
مركز الطبقة الثقافي: من حصار الرقيب إلى العطب
عدسة أنس الحردان | خاص عين المدينة
استغرق بناؤه عقداً، وعمل مثله ونيّف. كان الرقيب أكثر من يدخله، مسجلاً كلَّ حركةٍ وسكنةٍ، حتى كاد يشلـّه. فالمكان الذي بني على زعم خدمة الثقافة لم يكن في بلاطها إلا في أوقات الفراغ، لأنّ السلطة جيّرته أجيراً عندها بدون أجر. لكنّه استطاع اختلاس لحظات فرح لأبناء المدينة، عندما قدم محاضراته وندواته وعروضه وفنونه.
دخل المركزُ في مرحلة الإنعاش السريري أواخرَ العام الفائت، فلم يعد يسكنه غيرُ الصمت والفراغ. وخرج من الصخب السياسي المفتعل فيه، والذي جُنـِّد له بغير إرادته، ليدخل في سباتٍ استمرّ أشهراً. هللّ الناس لخلاصه، وخلاصهم والمدينة، من ربقة النظام الذي جثم على صدورهم أمداً. وسرعان ما بات ملاذاً تؤمّه بعض الأُسر ناشدةً الحماية بعد أن غادرت مساكنها الجاثمة تحت حمم النيران. لكن نشدانهم للأمن والطمأنينة لم يدم، فقد تلقى المركز ضربة قصمت ظهره، مستهدفاً بصاروخين من طائرة ميغ ، جعلته هشيماً تذروه الريح.
"عندما وقفت أشاهد المنظر هالني كلُّ هذا الحقد الذي مُورس عليه. شعرت أنَّ أبا خليل القباني يموت مرّة أخرى، وأنَّ الحيوات التي أعيشها وأعايشها فيه قد أطفئت قسرياً"... (صمت المخرج المسرحي ـ والكلام السابق له ـ زفر بقوة. أشاح بوجهه بعيداً. وبفجاءة انصرف ونحن نلاحقه لمتابعة الحديث، لكنَّ صرختنا ذوت في واد).
"عايشت المسرح عقداً - والكلام لأبي أحمد - أخذني بجماله وجلاله... الخشبة المترامية الأطراف، الجدران المزدانة بالأرابيسك، المقاعد الوثيرة، كلُّ ذلك كان يضفي عليه حضوراً ساحراً. فيه شاهدت عروضاً غنائية ومسرحية لامست حياتنا وهواجسنا. فيه أعيدت إلى الحياة حكاياتٌ وأغنياتٌ جميلة. صحيح أنَّه كان مجيّراً ومصادراً في معظم الأوقات للحراك السياسي المنفصم عن دواخلنا وحياتنا ولا يمثل توجهاتنا، لكننا كنا نتفاعل معه عندما كان الفعل الثقافي يمسّنا".
وعن أهم تجهيزات المسرح حدثنا السيد ع، د: كان من أهم المسارح وأفضلها حتى وقت قريب، فقد اُتمت تجهيزاته الفنية من كل الجهات؛ زُوِّد بأجهزة إضاءة وإنارة، إضافة إلى التوزيع الصوتي. ولا ننسى غرفتي السينما والترجمة الفورية. والأخيرة لم تستخدم، ماتت في المهد. ناهيك عن جهازي متابعة ضوئية، والعديد من الميزات غالية الثمن، وعالية الجودة.
تقول السيدة س، ج: كان المركز عالمنا الجميل. لم يكن بناءً فحسب، بل كان ملتقى أدباء وشعراء ومثقفين، شيباً وشباباً. ثقافات ومشارب مختلفة تنداح وتنصهر في بوتقة خدمة الناس، إمتاعهم، التسامي بمداركهم ومعارفهم. فيه التقينا بقاماتٍ أدبيةٍ وثقافيةٍ أحببناها. القصّ، النقد، السياسة، الدين، الفكر، العزف... كلُّ ذلك كان المحور الذي يجمعنا هناك. كانت الفرجة المسرحية تمتعنا وتعلو بالذائقة الفنية عند الناس. لقد كان بحق صرحاً من جمال لكنه... هوى. ربما استشعروا الخطر المحدق الذي يشكله بعد أن انعتق من إسارهم. وتضيف أيضاً: نشعر اليوم أننا أضحينا في بيداء قاحلة، فعقد الثقافة انفرط وتناثرت حبات سبحته لأنّ ناظمها قد تلاشى.
الطفولة التي كنا نتمنى أن ندّخره لها ليكون حصنها الفني لتطوره، كان لها نصيبٌ فيه، وكان لنا نصيبٌ معها في حديثٍ مقتضبٍ مع الطفلة سعاد.س، التي تقول: كنّا نسرُّ ونحن نحضر مسرحية أطفال. وعندما نصعد إلى الخشبة لنشارك نشعر بأنّنا "طايرين في السما". لكن رغم ذلك سنبنيه يداً بيد.
كان هذا المركز الثقافي، وبغض النظر عما مورس فيه، سواء أوافق الناس جميعاً؟! أم وافق بعضهم؛ شاهداً على حقبة كاملة، بكل تفاصيلها. وبعد دماره سيظلّ شاهداً على مرحلة نعايشها بحلاوتها، ومرارتها التي نتمنى أن تزول. لكننا لا نستطيع الجزم إن كنـّا سنفي بالعهد الذي قطعته علينا الطفلة سعاد حول إعادة بنائه، فالمركز الذي قوّضته الطائرة بضغطة زر يحتاج حقبة طويلة ليعاد بناؤه وجيله القادم القادر على بدء مرحلة يكون المركز فيها خادماً للثقافة والناس لا خادماً للسلطة كما سلف، إن كان ذلك متاحاً...؟!