بين سايكس وبيكو وإبراهيم العوّاد
عاقب تنظيم الدولة الإسلامية، منذ أيامٍ، أحد سائقي السيارات العمومية، لنقله عراقيين من مدينة البوكمال إلى مدينة دير الزور. كانت العقوبة ثلاثمائة جلدةٍ، وغرامةً قدرها خمسمائة دولارٍ عن كلّ شخص. واندرجت العقوبة في سياق تطبيق التنظيم لقانونه بمنع العراقيين من الانتقال إلى سوريا دون موافقة "والي ولاية الفرات"، التي تضمّ مدينة البوكمال وريفها إلى جانب مناطق عراقية، وتفصل بينها وبين "ولاية الخير" (معظم دير الزور) هضبة الصالحية.
أزال التنظيم -منذ إعلانه الخلافة- الحدود الترابية التي ترسم الحدود السياسية بين العراق وسوريا، في المناطق التي يسيطر عليها، للتعبير عن رفضه اتفاقية سايكس بيكو والحدود التي أوجدتها. وقد طالبت الموارد البشرية في التنظيم، منذ ما يقارب الشهرين، عناصره الذين يكنّون أنفسهم (أبو فلان السوريّ) بتغيير كناهم، رفضاً للوصف الذي يتطابق في وعي الناس مع الحدود المعروفة. بينما تشير أدبيات التنظيم ببلاد الشام إلى الأراضي التي تبدأ من غرب نهر الفرات، وهو ما عبّر عنه جنوده حين دخلوا إلى مدينة دير الزور حفاةً، وقبّلوا أرضها، لأنها جزءٌ من أرض الشام المباركة كما يعتقدون. لم يأخذ الكثير من أهالي المناطق السورية التي سيطر عليها التنظيم -بمن فيهم مقاتلوه- على محمل الجدّ شعاراته المرفوعة بتغيير خارطة العالم، لكنهم ينظرون إليه في العراق على نحوٍ مغاير، إذ إن معركته هناك معركةٌ وجودية؛ ولذلك يفرّق البعض بين "داعش في سوريا" و"الدولة الإسلامية في العراق".
وإذا كان معروفاً عن أهالي المنطقة الشرقية في سوريا قربهم من أهالي العراق في أمورٍ كثيرةٍ، وتقديرهم لقياداته السابقة، وخاصّةً صدام حسين؛ فإن أهالي البوكمال كانوا معروفين في المنطقة الشرقية نفسها بأنهم سوريون بالهوية لكنهم يكادون يكونون عراقيين بالواقع، لقرابة الدم والنسب مع أهل العراق، ولأن (العانيين والروايين) من أهمّ المكوّنات الاجتماعية في المدينة، بالإضافة إلى ارتباطهم الاقتصاديّ الوثيق بالسكان على الجانب الآخر من الحدود. وقد ظهر التقارب في أكثر من مناسبةٍ، كما في مطالبة البوكماليين الأمن السوريّ بفتح الحدود في حرب الخليج 1991.
فرض الواقع السياسيّ نفسه مع الزمن، منذ التقسيمات الإدارية عام 1904، عندما أُلحقت البوكمال بدير الزور. فالحدود السياسية، وتعقيدات الزواج الخارجيّ، ومنع التنقل وإدخال وإخراج البضائع لفتراتٍ طويلة، وغيرها من الممارسات (التي كانت كثيراً ما تخرق، لكن خرقها كان مغامرةً ذات تبعاتٍ خطيرة)، وارتباط البوكماليين أكثر فأكثر بدوائر الدولة السورية ومؤسّساتها وعجلتها الاقتصادية، ومدارسها وجامعاتها؛ كلّ ذلك وغيره خلق في النهاية واقعاً اجتماعياً جديداً، يستطيع المراقب أن يلاحظه اليوم في تحفظ الأهالي تجاه العراقيين (أقاربهم السابقين). وربما أسّس لهذا التحفظ قبلاً إحساسٌ عامٌّ لدى كثيرٍ من السوريين بأن الشعب العراقيّ "خان صدّام حسين وخذله". ثم جاء نزوح العراقيين إلى سوريا ليظهرهم بصورةٍ واقعيةٍ مغايرةٍ للصورة الوردية المتعاطفة التي رسمتها لهم حربهم ضد إيران، وتهديد إسرائيل وامريكا، والحصار الطويل الذي فرض عليهم.
اليوم تعدّ البوكمال من أكثر الأسواق انتعاشاً بالبضائع التي يأتي العراقيون لشرائها؛ كما تبدو مركزاً خدمياً مفضلاً لهم؛ لكن البوكماليين يظهرون تبرّمهم من التمييز الكبير أمام القانون بينهم وبين العراقيين من أبناء "الولاية" نفسها. إذ يتمتع أهالي العراق بامتيازاتٍ واسعةٍ، أهمها حرص التنظيم على الحفاظ على مصالحهم، ومنحهم حصانةً رمزيةً -إن صحّ التعبير- وليّ عنق القوانين من أجل ذلك. وليست بعيدةً عن هذا التنقلاتُ التي طالت قادةً سوريين في التنظيم (أبرزها نقل صدام الرخيتة -الذي كانت له اليد الطولى في سيطرة التنظيم على مدينته البوكمال- إلى الشولة) لأن سلطتهم تعارضت مع مصالح عناصر، بل وحتى مدنيين، من العراق.
يقول مقرّبون من التنظيم إن قانون منع أبناء "ولاية الفرات" من السفر سببه الخوف من هروب قياداتٍ منهم إلى تركيا قد تعمل على تحريك انتفاضةٍ بوكماليةٍ تفصل سوريا عن العراق، خاصّةً أنّ كثيراً من عناصر التنظيم البوكماليين كانوا سابقاً في جبهة النصرة. وإذا بدا هذا السبب غير واقعيٍّ، فإن واقعية قادة التنظيم، التي بدت في غير مكان، ومحاولتهم دمج البوكماليين بأهل العراق، ثم كلام منظريه عن مخططٍ أمريكيٍّ لتقسيم المنطقة؛ يدفع إلى الظن أنهم يريدون الاحتفاظ بالبوكمال إذا قيّضت لهم المحافظة على دولةٍ سنّيةٍ في العراق كأمرٍ واقع. أما اعتراضهم على سايكس بيكو فهو ليس اعتراضاً على المبدأ، بل على التفاصيل.