تجري في هذه الأيام مناقَشة مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية بجديةٍ أكثر من أيّ وقتٍ سابق. ويحاول الكثير من سكان المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، أو الهاربين منها، تصوّر شكل العدالة التي يمكن أن تسوّي أوضاع الأفراد والجماعات التي اختارت الوقوف إلى جانبه أو القبول به أو السكوت عنه.
يُستثنى من النقاش بطبيعة الحال الموظفون الحكوميون السابقون والحاليون، الذين كانوا عرضةً لآثار صعود وهبوط القوى المسيطرة، ومحاولة كلٍّ من هذه القوى ربط هذا "الجيش المدنيّ" بها. وبعد سيطرة التنظيم ومبادرته إلى اتخاذ القرارات والمتابعة أبدى الكثير من هؤلاء ارتياحه، رغبةً في خدمة البلد والناس أو لمجرّد الاستمرار في عمله. فراح أكثر من ثلاثين فنياً من شركة الكهرباء -على سبيل المثال- يعمل في مشروع التنظيم لإعادة توزيع الكهرباء في مدينة دير الزور، كما انخرط عمالٌ ومهندسون من البلديات والمجالس المحلية في أعمال ترميم وبناء جسورٍ ترابيةٍ على نهر الفرات، وعملوا في إصلاح بعض الطرقات في مدينة الميادين، وتزفيت شارع بغداد في مدينة البوكمال. لقد عمل هؤلاء، وغيرهم في قطاعات النفط والصحة، في ظلّ النظام ثم المجالس المحلية واليوم في ظلّ التنظيم، مما جعلهم تقنيين غير محسوبين على أحدٍ بشكلٍ مباشر.
وفي سياقٍ متصلٍ يُطرَح موضوع مقاتلي الجيش الحرّ السابقين الذين استمرّوا في القتال على الجبهات مع النظام في مدينة دير الزور تحت المظلة العامة للتنظيم دون أن يبايعوه، بعد أن رفض الكثير منهم الاشتراك في معارك خارج المحافظة. فهم يرابطون على الجبهات مدافعين عن مدينتهم ووجودهم من جهة، ومن جهةٍ أخرى يعيشون الحرب في جوٍّ يشبه الوظيفة الحكومية -كما أفاد أحدهم- منتظرين حلاً ما. ويستثني أفرادٌ وقوى معارضون للتنظيم هؤلاء المقاتلين، الذين يُعرَفون بالمناصرين، من تهمة الدعشنة رغم أنهم يقاتلون الآن بإشراف التنظيم. ويختلف من يُخرَجون من دائرة الدعشنة من شخصٍ إلى آخر ومن جهةٍ إلى أخرى؛ وإذا أردنا الدقة نلاحظ أن هؤلاء المعارضين على صلةٍ ما بالمناصرين، وبطبيعة الحال يعرفون رأيهم في أن "دولة التنظيم" مؤقتة. ومن هذه الزاوية يُستثنى من الدعشنة من يُستثنى، حتى أن مراقباً محايداً يستطيع ببساطةٍ إطلاق المثل المشهور "اللي نحبّو ما نسبّو".
أما حين يشمل النقاش عموم المحافظة فتبدو القوى المعارضة للتنظيم مطمئنةٍ إلى مرحلة ما بعده، ويهوّن الكثير منها من شأن قواه البشرية ذات الأصول المحلية. إذ يتحدث أحدهم –وهو قائدٌ عسكريٌّ سابقٌ- عن مبايعين ثلاثةٍ فقط من ناحيته التي يتجاوز عدد سكانها الثلاثين ألفاً، بينما يتهم الكثيرون تلك الناحية بأنها قدمت مئات إن لم يكن آلاف المبايعين. لكن المطلع يستطيع ان يتفهم دوافع هذا التهوين حين يعرف أن عدد ضحايا التنظيم من دير الزور قد تجاوز الثلاثة آلاف منذ أشهر. ويضاف إلى ذلك التسرّبُ المستمرّ للمبايعين باتجاه تركيا وأوروبا، والمحسوبيات والوساطة التي أصبح بموجبها بإمكان أبناء المنطقة أن يبقوا قريبين من أهاليهم، في وظائف على الحواجز أو الدواوين أو الحراسة أو الحسبة والشرطة. فضلاً عن عدم تمسك غالبية هؤلاء بالتنظيم، إذ إن الكثير منهم تسرّب بشكلٍ تدريجيٍّ و"سلميٍّ" من جبهة النصرة وغيرها باتجاه التنظيم، دون الاطلاع على أفكاره وأهدافه، لكن لصالح شخصياتٍ صاعدةٍ آنذاك لوّحت بالحماية والنفوذ.
وبعيداً عن الولاءات الشخصية ينظر الكثيرون إلى القوى المحلية التي بايعت التنظيم على أنها فعلت ذلك بدافع الانتماء إلى جهةٍ تعرف ماذا تريد، تأمر وتحاسب وتسيّر الأمور وتدفع الرواتب، لا غير. أما باقي التعقيدات فيعوّل بشأنها على الحماية العشائرية المستقبلية. وذلك رغم أن البعض ينتظر مرحلة ما بعد التنظيم منذ ظهوره، خاصّةً من تضرّر بشكلٍ مباشرٍ من سلطته، فراحت تتردد عبارة "بس يروحون الدواعش" في وقتٍ مبكرٍ بانتظار موعد الانتقام من القوى التي دعمت التنظيم وساعدته في السيطرة.
يُنظَر إلى جميع هؤلاء الذين يستثنَون من حربٍ مستقبليةٍ على التنظيم، في كثير من النقاشات الحالية، ومن وجهات نظرٍ محليةٍ مختلفة؛ على أنهم قوى لتسيير الأمور فقط، و"راح يقلبون بس يمشون الدواعش". لكن ألا يحقّ لمعارضي التنظيم من فئاتٍ أخرى أن يسألوا: إذا لم يكن كلّ هؤلاء دواعش فمن هم عناصر التنظيم!