- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
كفرنبل قبل الرحيل .. «ابتسم مشان تطلع صورتك أكوس بس تمرق الاستطلاع»
كان يوماً اعتيادياً من أيام كفرنبل: السوق يعج بالمارة، والباعة مشغولون بترتيب بضائعهم. على ناصية الطريق اشتكى بائع لجاره من برودة السوق وقلة الحركة، وعلى الطرف المقابل جلس مجموعة من الشبان يتجاذبون أطراف الحديث، بإمكان المار بجوارهم أن يلتقط بعضاً منه حول الأوضاع العامة، والمجزرة الأخيرة التي ارتكبها نظام الأسد في إحدى البلدات القريبة.
أحدهم انشغل عن صحبه بمراقبة السماء، لو أمعنت النظر بعينيه لشعرت بأن حدقاته تتسع وتضيق كعدسة كاميرا تبحث عن هدفها؛ لم يكن الشاب من هواة طيور الحمام التي تحلق في الأجواء، لكنه كان منشغلاً بالبحث عن طائرة استطلاع سمع صوتها في سماء المدينة. "طائرة الاستطلاع بأجواء كفرنبل، كفرنبل ومحيط كفرنبل انتباه" أطلق جهاز اللاسلكي المعلق على نافذة المحل، فقطعت العبارة أحاديث الجميع ودفعتهم لتعليق أنظارهم بالسماء.
لطالما كان وجود طائرة الاستطلاع في سماء منطقة ما نذير شؤم لأهاليها، إذ اقترن وجودها مؤخراً بقصف سيتبعها؛ كل ذلك نشر الانقباض في المكان بمجمله، وقد مرت لحظات طويلة وطنين الاستطلاع الذي أصبح مسموعاً يشد انتباه الجميع إليه، حتى قطع أحدهم لحظة الصمت مازحاً "ابتسم يا زلمة مشان تطلع صورتك أكوس بس تمرق الاستطلاع" ضحك الجميع وتابعوا أحاديثهم، وقد غاب الصوت ولم يعد مسموعاً.
العابر الغريب عن المدينة قد يعتبر حياتها طبيعية، فالمشاهد بظاهرها لم تتغير، والبضائع تملأ السوق، وحركة الدراجات النارية والسيارات تمنح المدينة صخباً إضافياً، لكن خوفاً دفيناً في قلوب أهلها بدأت ملامحه تظهر في العيون خلال الأيام القليلة الماضية، تمكنتُ من فهمه خلال معاشرتي لأهلها لمدة فاقت الخمس سنوات.
سيارات النازحين التي كانت تعبر المدينة قادمة من ريف إدلب الجنوبي، تنقلني إلى أجواء تلك المناطق التي تركها أهلها على عجل خوفاً على حياتهم، وإمعان النظر في سياراتهم ومحتوياتها قد يمنح خبرة إضافية إذا اضطررت للهروب من كفرنبل يوماً، رغم أني أقضي في المدينة نزوحي الثاني عن بلدتي الأم قمحانة منذ العام 2012.
"مروحي البراميل قطع معرتحرمة باتجاه الشمال".. العبارة دفعت صاحب المحل إلى رفع صوت قبضته اللاسلكية، فالخطر يقترب والحذر واجب؛ وخلال لحظات قليلة تغير حال المدينة، وصار الخوف الظاهر على الوجوه أكبر من أن تخفيه ابتسامة، فصوت المروحية التي غابت عن المدينة طويلاً عاد اليوم ليفرض وجوده على إرادة أهلها؛ كل الأنظار تتجه نحو السماء جنوب المدينة، حيث كانت المروحية تتابع مسيرها متثاقلة بحملها.
كنا نأمل بأن تنحرف المروحية شرقاً أو غرباً، ثم تنعطف جنوباً لتبتعد عنا قبل أن تدخل أجواء المدينة، لكن الأمنية تبددت حين صاح أحد المراصد: "المروحي دخل أجواء كفرنبل".. كانت تلك العبارة كفيلة بدفع كل من السوق لترك ما بيده ومتابعة المروحية، مع التركيز على صوت المرصد الذي اعتاد إخبارنا عن ميعاد دخولها مرحلة العمل، أو ما تسمى منطقة التنفيذ، والتي كانت الطائرة قد دخلتها فعلاً.
مع ارتفاع صوت المروحية التي غدت فوقنا تقريباً، بدأ يعلو صخب أغلاق المحلات وهي تنزل على عجل، فاستهداف السوق في مرات سابقة ما يزال مطبوعاً في ذاكرة تجاره، لكن البعض تركوا محالهم وانشغلوا في مراقبة ذلك الوحش الجاثم في سمائهم، ومع المراقبة كان أبو أحمد يقترب رويداً من باب ملجأه الأرضي الذي سيندس فيه فور سماعه بتنفيذ المروحي.
أمام أحد المحال كان ما يزال الحاج صبري جالساً مع صديقه متجاهلاً كل ما يدور حوله، مظهراً بعض رباطة الجأش التي تلاشت عندما صرخ أحدهم بصوت مدوي "نفففذ"، يعني أن المروحية ألقت برميلها وبدأ سقوطه الحر على المكان الذي تحلق فوقه.
"نفذ" لوحدها كانت تخلع القلوب قبل أن يصل البرميل إلى الأرض، وتبدأ الحركات اللاإرادية بالتحكم بتصرفات الحضور: الشبان بقربي يدسون رؤوسهم بين أكتافهم بقوة مع تقريب الأيدي من الأذنين في محاولة لحماية الرأس، والحاج صبري وحده استلقى على الأرض قرب الرصيف وغطى رأسه بيديه، في حين جثم الجميع في مكانهم وكأن سحراً أصابهم، ما لبث أن تلاشى مع سماع صوت انفجار البرميل في طرف المدينة.
نفض الحاج صبري ثيابه وتحمد الله، فقد كنا نظن أن البرميل يتجه إلينا مباشرة، وهذا ما يشاركنا به قطعاً جميع من في المدينة، فارتفاع الطائرة الكبير يجعل الجميع يشعر وكأنه تحت مرماها؛ ورغم أن وصول البرميل إلى الأرض قد لا يستغرق زمناً أطول من خمس ثوان، لكنها كفيلة بأن تشعر وكأنها دهر بأكمله، فهي الفصل بين الموت والحياة.
عودة الطيران المروحي إلى سماء المدينة شكل فارقاً لدى أهلها، والقصف المدفعي الذي كانت تتعرض له المدينة بين الحين والآخر لا يقارن بحضور المروحية التي ستتبعها لاحقاً مروحيات أخرى. كنا نمني النفس بعودة الهدوء إلى أجواء المنطقة مع كل تصريح سياسي أو اجتماع دولي، لكن التصعيد كان سيد الموقف، وبدء الطيران باستهداف الأحياء السكنية بشكل مباشر، في سيناريو مشابه لما حصل في البلدات الأخرى من ريف إدلب الجنوبي، كان رسالة واضحة بأن "على الجميع أن يرحل أو يموت تحت أنقاض منزله".