- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في بداية الثورة السورية .. رصاص قوات الأمن أعادني لحجر أبي وجعلني ثائراً حذراً
في أولى جمع مظاهرات آذار 2011، وبعد صلاة الجمعة، انقسمنا أنا وأصدقائي على باب مسجد الصحابة الواقع بين مدينتي داريا ومعضمية الشام، إلى فريقين بين مؤيد لكلام خطيب المسجد معلمنا في المدرسة، وبين من وقف ضد كلامه الذي وصف ما يجري بفتنة يجب أن نلتزم خلالها البيت.
قررت مع اثنين من أصدقائي التوجه لدوار "شريدي" في داريا والذي أطلق عليه اسم دوار الحرية مؤخراً؛ هناك ستقام المظاهرة التي ستجوب معظم شوارع المدينة، من شارع "الثورة" وحتى شارع "المقابر" إلى دوار "الباسل"، وقد أطلقنا على الأخير دوار "الشهيد أبو صلاح"، الذي بال على رأس تمثال باسل الأسد، وقتلته قوات النظام في المعتقل.
لم أكن أعرف السبب المباشر الذي دفعني للمشاركة في تلك المظاهرة، كما كنت أجهل التوقيت والمكان الحقيقي الذي ستقام فيه، إلا أنني عرفته عندما حذرنا الشيخ من الذهاب. ولكني عندما سرت معها أحسست كمن ركب الموج العاتي، كانت أصوات الهتاف وأنغام التصفيق تلهب النار في عروقي، اندفعت بكل جوارحي أهتف بأعلى صوت "حرية حرية".
في تلك الأيام لم تعد الحياة تسير برتابتها المعهودة، صار بإمكاني- أنا طالب الثاني ثانوي- السهر مع رفاقي حتى الفجر، والتغيب عن المدرسة. ولم تعد أحاديثنا ذاتها عن المنهاج المدرسي والطرنيب ومشوار يوم الجمعة، بل أصبح حول شكل نظام الحكم الجديد الذي سنطالب به بعد سقوط النظام، كما حددنا الساحات الرئيسة التي سنقيم فيها الاحتفالات. كنا نكتب الشعر ونقرأ قصائد أحمد مطر ونزار قباني السياسية.
تعرفت على الانترنت، وبدأت أتقن استخدام "فيسبوك"، وأنشأت حساباً أسميته "اللورد أبو عمير". كان لقبي الثوري بين رفاقي.
"باع الجولان باع باع"، بعد أن شاركت بترديد هذا الهتاف، قال لي خال أمي وكان أحد المقاتلين في حرب تشرين، أن قوات الجيش السوري كانت قاب قوسين أو أدنى من تحريرها إلا أن الأوامر جاءت فجأة بالانسحاب منها.
في تلك الأيام أصبحتُ أكثر جرأة على السؤال؛ عرفت من جدي والانترنت عن "أحداث" مجزرة حماة، والسجون والاضطهاد الذي عانى منها الشعب السوري طيلة 40 عاماً. وأدركت معنى "بيت خالتو وشحطوه وتهمتو سياسية"، التي أودت بإحدى أقاربي عامين في غياهب السجون، خرج منها وقد أصيب بمرض السل الذي عانى منه طوال حياته.
في كل جمعة كانت أمي تحاول منعي من الذهاب إلى المسجد، بالصراخ أحياناً وبالدموع أحياناً أخرى وبدعاء الرضا "الله يرضى عليك بلا اتروح.. والله قلبي بضل يغلي نار لترجع". لسبب ما ِأصبح قلبي حجراً، وكنت أعتبر كلامها تثبيطاً وجبناً وتقاعساً عن أداء الواجب، كنت أخرج دون أن ألتفت إليها، وأنا أدندن "أني طالع اتظاهر دماتي بإيديا... وان جيتك يما شهيد لا تبكين عليا".
بيتي كان عند مفترق مدينتي داريا معضمية الشام، ووفق سياسة تقطيع أوصال المدن التي اتبعها النظام للتقليل من حدة الاحتجاجات والسيطرة عليها، فقد ُنشرت قوات الجيش والأمن قرب منزلنا وأقاموا حاجز تفتيش، وفي أول يوم جاؤوا فيه فرضوا حظر تجوال في الحي، إلا أنني كنت مصراً يومها على الذهاب إلى المدرسة. اقتربت من العساكر وأنا رافع الرأس شامخاً، حتى صرخ بي الضابط المسؤول "ارجع ع البيت"، أكملت سيري دون التفات. وقتها لم تكن أي رصاصة قد أطلقت، لم أشعر بالخوف أبداً، لسبب ما سكت الضابط وتركتي أمر بسلام.. كنت أود أن يكمل صراخه حتى أنفجر في وجهه قائلاً "الشعب يريد إسقاط النظام".
كنت أذهب إلى المدرسة دون حقيبة الكتب، فلا "دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس"، لذلك كنت أُطرد من معظم الحصص. في الباحة كنا ننظم المظاهرات التي تهتف لإسقاط النظام وإسقاط المدير والأساتذة الذين يستنكرون خروجنا بالمظاهرات.
"منشان مصلحتك يا ابني.. أنا خايف عليكم.. ومابقدر أعمل شي.. العين علي" كان هذا جزءاً من إحدى الأحاديث التي كانت تدور بيني وبين مدير المدرسة، بعد أن لمحته يوماً يكلّم رجال الأمن دون أن يتعرضوا له، فأصبح بعدها يحاول استرضائي، ويطلب مني أن نبعد المظاهرات عن المدرسة لأن قوات الأمن ستعتبره المسؤول عن كل ما يجري، قلت له "وإذ! كون انت المسؤول.. ليش انت مو معنا؟" لم يحرّ جواباً واكتفى بأن ألح بطلبه بكل هدوء.
ظلت جمع المظاهرات تتوالى، وكنت أزيد معها إصراراً وثورة، فلم أعد أعود للبيت باكراً، وتركت حضور درس المسجد، ولم أعد بحاجة لإذن والدي للخروج، كما أني صرت أعرف عن تاريخ سوريا القديم القدر الذي ملأني حقداً وكرهاً على حقبة تسلم الأسد للحكم.
يوم الجمعة العظيمة (22 نيسان) قال لي أحد أصدقائي ونحن في طريقنا إلى ساحة المظاهرة "اليوم طلعت مظاهرة مليونيه بحماة، أكتر من 200 نقطة تظاهر بسوريا"، وأكد لي أنه في حال بقينا على هذه الوتيرة سوف يسقط النظام قريباً، وكل ما علينا هو مواجهة عناصر الأمن التي أصبحت أكثر قسوة وتحاول في كل جمعة تفريق المظاهرة عبر اعتقال عشرات الشباب، والضرب بالعصي الخشبية وعصي الكهرباء. قررنا أن من واجبنا أن نواجه قوات الأمن بالحجارة والمولوتوف إن اضطر الأمر.
في الجمعة العظيمة اجتمع مئات المتظاهرين، وطوقت قوات الأمن المدججة بالبنادق والرشاشات المكان، وتسلحنا ببعض الحجارة وقناني الكولا والبصل، وقد سمعنا أنها تخفف من شدة تأثير الغاز المسيل للدموع الذي كانت قوات الأمن تقذفه بوجوهنا. لبست يومها أكثر من بنطال وسترة جلدية لتفادي آلام الرصاص المطاطي الذي عانيت من إصابته في إحدى المظاهرات.
يومها لم تخرج مظاهرة من المسجد الذي صليت فيه، لذلك قصدت منزل صديقي بعد الصلاة وتوجهنا سوياً للتظاهر، بعد أن شربنا كوبين من الشاي وشاهدنا لقطات من قناة الجزيرة التي كانت تقسم الشاشة لأكثر من عشرة أقسام وهي تعرض المظاهرات التي خرجت في معظم المحافظات السورية.
عند وصولنا إلى مكان احتشاد الجموع تفاجئنا بالأعداد، فلم تكن على ما توقعنا، وما هي إلا دقائق حتى عرفنا أن النظام حاصر كل نقطة تظاهر على حدة، ومنع التقاء الجموع بعضها ببعض. قررنا أنه يجب علينا أن نفك الحصار عن نقاط التظاهر، أخرجنا أسلحتنا وكان بحوزتي ثلاث بصلات وقنينة كولا ووشاحاً غطيت به وجهي.
كنا نهتف عالياً "لا تراجع لا استلام" و" الموت ولا والمذلة"، دوت أصوات الرصاص وسقط شاب كان يقف بجانبي مضرجاً بدمائه؛ قدماي ترتجفان وأسناني تصطك، لم أستطع مواصلة المسير ورجعت إلى البيت باكراً، وكدت أبكي عندما رأيت أمي تنتظرني خلف الباب، وأخذتني بين أحضانها.
في صبيحة اليوم التالي كان التشييع الكبير لثلاثة شهداء سقطوا خلال مظاهرة الأمس، كان نزف الدماء علامة فارقة، فقد أحدث انفجاراً في صدور معظم السكان، يومها خرجت المدينة قاطبة، واستطعت أن أنسى خوفي عندما رأيت والدي قد تجهز لحضور التشييع العظيم.
انحدرت جموع المشيعين كسيل عارم جابت معظم شوارع المدينة، وحضرت قوات الأمن إلا أنها ظلت واقفة دون أن تقترب من الجمع الغاضب، كان الهتاف للحرية والشهداء إلى أن وصلنا إلى المقبرة، بعدها خرج عشرات الشبان وهتفوا لإسقاط النظام.
بكلتا يديه أمسكني والدي وأنا أهتف محاولاً الإفلات والالتحاق بالمظاهرة التي ضمت أصدقائي وكانت تمضي باتجاه قوات الأمن لأخذ الثأر، وهو ما عزمنا عليه عشية مظاهرة الأمس. كانت قبضة والدي شديدة لم أستطع الإفلات منها، حتى عادت أصوات الرصاص تدوي، فضممت يدي إلى يده واختبأت بحجره.