- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في الرقّة: عندما تقصف الطائرات الروسيّة فالخيارُ الأفضلُ أن تكون في أحد مقرّات داعش!
«لما طيران التحالف يقصف ناخذ بزر وشاي ونطلع عالسطح ندخّن»، هكذا وصفت مها اطمئنان أهالي الرقة إلى دقة غارات التحالف الدوليّ. الناشط الرقاويّ أحمد الحاج صالح، ابن أخ مها والذي روى القصّة، يقول إن ابن عمّته وحفيديها قضوا لاحقاً بشظايا أصيبوا بها إثر استهداف التحالف سيارة أحد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في حيّ سيف الدولة في المدينة، أما مها نفسها فقد قتلت بغارةٍ جوّيةٍ روسيةٍ.
تبعد مدينة الرقة 200 كم شرق مدينة حلب، على ضفة نهر الفرات. سيطر عليها تنظيم داعش في مطلع 2014. وهي تعيش أوضاعاً أسوأ من السابق في الأشهر الأخيرة بسبب استهداف الطيران الروسيّ المدنيين مراراً. ويعدّ تشرين الثاني الماضي ذروة القصف على المدينة، ففيه حصل تدميرٌ للبنى التحتية بشكلٍ بدا للكثيرين متعمّداً، كما حدث للمشفى الوطنيّ.
لمدّةٍ طويلةٍ استطاع والد أحمد (13 عاماً) أن يتدبّر أمر علاج ابنه المصاب بمرض الفشل الكلويّ في المشفى الوطنيّ، وهو مشفىً حكوميٌّ يسيّره التنظيم بعد أن سيطر على الرقة، خرج عن الخدمة في 4 تشرين الثاني الماضي جرّاء استهدافه بعدّة غاراتٍ من الطيران الروسيّ. الأمر الذي اضطرّ أبو أحمد إلى البحث عن مكانٍ يتابع فيه علاج ابنه، فتوجّه إلى المشفى الوطنيّ في مدينة الطبقة التي تخضع لسيطرة التنظيم أيضاً. أخبر القائمون على المشفى الأب أن جناح غسيل الكلية في المشفى مكتظٌّ (الأسعار رمزيةٌ لكن الخدمات مخصّصةٌ لعناصر التنظيم وذويهم)، ولا توجد كميةٌ كافيةٌ من المواد الخاصّة بعملية الغسيل، ولذا عليه أن يدفع 80 دولاراً للجلسة الواحدة. كان أحمد يحتاج إلى غسل كليتيه مرّةً كلّ ثلاثة أيام، ولا يستطيع أبوه دفع هذا المبلغ، فالدخل المتوسّط في سوريا الآن أقلّ من دولارين يومياً. لم يبق أمام العائلة إلا مغادرة الرقة إلى مناطق سيطرة النظام أو إلى تركيا، وهما خياران ليس لديها المال الكافي لفعلهما. في كانون الأوّل مات أحمد.
ليست هناك إحصائيةٌ رسميةٌ لعدد سكان مدينة الرقة الآن، لكن نشطاء يقدّرونه بأكثر من ستمائة ألف نسمة، ربعهم تقريباً من النازحين من مدنٍ أخرى. في الأصل يعمل قسمٌ كبيرٌ من أهالي الرقة موظفين في الدوائر الحكومية، ولفترةٍ طويلةٍ بعد سيطرة التنظيم كانوا يتوجهون إلى مدنٍ خاضعةٍ لسيطرة النظام لاستلام رواتبهم، حتى منع التنظيم السفر إلى هناك إلا للحالات الصحية الموثقة أو بغرض التجارة التي تأثرت هي الأخرى. أبو علي (41 عاماً) تاجر قطع تبديل سيارات، يقول إن سوق المدينة يشهد اضطراباً في الأشهر الأخيرة بسبب الضربات الجوية الروسية؛ فهناك الهلع الذي يلقي بظلاله على الزبائن من محيط الرقة ويمنعهم من التبضّع لأيام، إلى جانب إخراج الضربات الروسية جسرَي الرشيد والمنصور (جسران على نهر الفرات يربطان مدينة الرقة بريفها وبالبادية السورية) الحيويين من الخدمة في تشرين الثاني الماضي، مما زاد المسافة التي تقطعها السيارات المحمّلة بالخضروات 75 كم، ورفع أسعارها إلى الضعف. وكان لاستهداف الروس الشمال السوريّ أثرٌ كبيرٌ في انقطاع بعض المواد الأساسية من السوق، كمادة السكر، وارتفاع أسعار المواد الأخرى التي يشتريها التجار من هناك.
«كان طيران التحالف يجوب سماء الرقة بشكلٍ شبه يوميٍّ، لكن إصاباته للتنظيم أدقّ. ولذلك كانت القاعدة التي يتداولها الناس: إذا كنت تريد أن تبقى على قيد الحياة عليك بالابتعاد عن الدواعش ومقرّاتهم. أما بعد استهداف الروس المدينة فأنت مهدّدٌ بالموت في البيت، في السوق، في أيّ مكان»، هكذا يلخص طالبٌ سابقٌ في كلية الاقتصاد يدعى محمد (24 سنة) الخوف الذي يعيشه سكان مدينته. ويكمل ضاحكاً: «ربما من الأفضل أن تكون في أحد مقرّات التنظيم أثناء غارات الروس، إذ إنهم يستهدفون المدنيين دون التنظيم».
يميّز الحاج صالح بين الأهداف الكلاسيكية، كالفرقة 17 وشركة الكهرباء، التي قصفها التحالف عشرات المرّات دون أيّ منطق، فالتنظيم أخلاها منذ استهدافها للمرّة الأولى، وبين ضربات التحالف النوعية في الأشهر الأخيرة، عندما أخذت طائراته باستهداف قادةٍ في التنظيم من خلال تتبع سياراتهم، ما أدّى إلى مقتل عددٍ منهم. فقد نقل ناشطون إعلاميون خبر مقتل الأمير العسكريّ لولاية الرقة هيثم الحسين، الملقب أبو عمار البغيلية، في كانون الأوّل الماضي، إثر غارةٍ للتحالف على السيارة التي كانت تقلّه، وكذلك أمير المكتب الأمنيّ في الولاية، والجهادي جون منفذ عمليات الإعدام في حقّ الرهائن الأجانب.
قبل دخول الطيران الروسيّ، في أواخر أيلول الماضي، تأثرت الخدمات في المدينة بظروف الحرب وبسوء إدارة التنظيم. ففي ظلّ استهداف التحالف حقول النفط والصهاريج التي تنقله، تأثرت عمليات بيعه التي يعتمد التنظيم عليها بشكلٍ أساسيٍّ في تمويله، فحاول تعويض النقص بعدّة طرقٍ انعكست على سكان المناطق التي يسيطر عليها. فبحسب أبو علي (46 عاماً)، أحد عمال مؤسّسة المياه الحكومية التي انتقلت إلى إدارة التنظيم، خفّض الأخير مخصّصات المحطة من المازوت اللازم لتشغيلها لضخّ المياه إلى الأحياء السكنية. وقد تولى الهلال الأحمر السوريّ تأمين مواد تعقيم المياه لمحطات التصفية لمدّةٍ بسيطةٍ قبل أن يمنع التنظيم هذه المنظمة –هي الأخرى- من العمل في مناطقه، وتحوّل إلى ضخّ المياه دون أيّ تعقيم. يقول حسن (24 عاماً)، وهو طالبٌ سابقٌ في كلية الطب البشريّ: «تستقبل المشافي بشكلٍ مستمرٍّ حالاتٍ لمرض الكوليرا وغيره من أمراض الجهاز الهضميّ بسبب المياه الملوّثة». يعمل حسن على توثيق هذه الحالات مع مجموعةٍ من أصدقائه.
يرى الكثير من أبناء الرقة أن التنظيم يمرّ بضائقةٍ مادية، ولذلك صار يزيد من الضرائب والغرامات. فقد أصدر قراراً يقضي بدفع الأهالي مبلغاً يتراوح بين (5-12) دولاراً مقابل الماء والكهرباء والهاتف، بعد أن كان الدفع محصوراً بالمحالّ التجارية فقط. سعيد (29 عاماً) طبيب أسنانٍ اعتقلته دورية الحسبة في تشرين الأول الماضي لوجوده في الشارع أثناء وقت الصلاة، يقول إن الكثير من التغيّر طرأ على عمل الحسبة في فترة اعتقاله عما سبقها. فقد صار المعتقل لديها يدفع غرامةً تتراوح بين (3-20) دولاراً، بحسب نوع المخالفة، في حين كانت تجبر الذين تعتقلهم بسبب تهمٍ متعلقةٍ بالقانون الذي يفرضه التنظيم -كترك صلاة الجماعة أو التدخين أو مخالفة اللباس المقبول لديه- على حفظ مبادئ وأفكار التنظيم في سجونها وتبثّ أمامهم إصداراته.
اعتقلت الحسبة عمار (27 عاماً) بالقرب من منزله بسبب حلاقته لذقنه، يقول: «اقتادتني دورية الحسبة إلى مقرّها في المدينة. وبعد أن سجّلوا اسمي وأخذوا هاتفي المحمول وضعوني في السجن الذي يديره شخصٌ يسمّى أبو زيد. في تلك الأثناء أغار التحالف على أحد مقرّات التنظيم مما جعل عناصره في مقرّ الحسبة في حالةٍ من الارتباك الهستيريّ. أخرجونا من السجن إلى باحة المقرّ وانهالوا علينا ضرباً بالعصيّ. كنا 17 شخصاً من مختلف الأعمار. وكان أبو زيد يصيح: «مبسوطين!! مبسوطين بالتحالف!!؟». كرهت التحالف وأنا أتلقى الضرب في تلك اللحظات. في اليوم التالي أخرجوني بعد أن دفعت 3500 ليرةٍ كغرامة».
كان لهزائم داعش في العراق أثرٌ واضحٌ في الرقة، إذ بدأ المهاجرون الذين كانت تزدحم بهم شوارعها بالمغادرة إلى الموصل. يقول عامر (35 عاماً) ويعمل في بيع الأقمشة: «كنا نرى المهاجرين وعوائلهم في كلّ مكان، إلى درجةٍ أشعرتني أني غريبٌ في مدينتي. لكن بعد خروج سنجار عن سيطرة التنظيم قلت أعداد المهاجرين بشكلٍ كبيرٍ، فقد كانت في حيّنا عشرات العوائل من جنسياتٍ مختلفة، كلهم هربوا باتجاه الموصل في الفترات الماضية». لكن هذه الهزائم انعكست مزيداً من التضييق على الأهالي، فبعد أن كان الإنترنت متوافراً للجميع، عبر أجهزة بثٍّ تملكها مقاهي الإنترنت ويشترك عبرها الأهالي، أصدر التنظيم قراراتٍ بإلغاء البثّ إلى خارج المقاهي التي حصَرَها أيضاً بتلك التي يملكها أشخاصٌ مقرّبون منه لتسهل عليه مراقبة روّادها، وأغلق المقاهي الأخرى. يقول عمر (18 عاماً): «لا زلت أذكر آخر مرّةٍ دخلت فيها إلى أحد مقاهي الإنترنت في الرقة قبل أن أنتقل وعائلتي إلى إدلب. كان ذلك منذ خمسة أشهرٍ، حين داهمت إحدى دوريات التنظيم المقهى واحتجزت أجهزة الهاتف المحمول الخاصّة بروّاده لتفتيشها. لحسن حظي كنت أتحدث مع أخي الذي يعمل في الخليج عبر الوتس أب، عكس صديقي ناصر الذي كان يتحدّث مع حبيبته في تركيا. انهال عناصر الدورية ضرباً على ناصر واعتقلوه. ظلّت عائلته تذهب يومياً إلى مقرّ الحسبة والمحكمة الإسلامية للسؤال عن مصيره، دون جدوى. بعد عشرة أيامٍ وُضع في قفصٍ حديديٍّ في السوق من الصباح حتى المساء، وفي اليوم التالي جُلد بتهمة الزنا».
كان خالد (32 عاماً) معلّماً في دير الزور قبل أن يدرجه النظام السوريّ على قوائم المطلوبين بسبب نشاطه الإغاثيّ في السنة الأولى من التحرّكات الاحتجاجية، ما اضطرّه إلى النزوح إلى الرقة والاستقرار فيها. أخرجه التنظيم مؤخراً من المنزل الذي استأجره طيلة الأعوام الثلاثة الماضية لأن صاحبه يعمل في الخليج. يقول خالد إن حالة الخوف التي يعيشها عناصر التنظيم بسبب استهداف التحالف لهم تجعلهم في بحثٍ دائمٍ عن سكنٍ بين المدنيين لمعرفتهم أن التحالف يتجنّب قصفهم. استهدفت غارات التحالف مقرّات التنظيم في المدينة وريفها مما اضطرّه إلى نقل معسكرات تدريب مقاتليه إلى داخل المدينة، وكذلك تغيير أمكنة مقرّاته الأمنية فيها مرّاتٍ عديدة. اضطرّ خالد إلى البحث عن طريقةٍ للخروج برفقة عائلته إلى تركيا: «غادرنا الرقة ظهراً. كنا نخبر حواجز التنظيم أننا ذاهبون إلى مدينة الباب، إحدى مدن ريف حلب الشرقيّ التي يسيطر عليها التنظيم. وعند وصولنا إلى الباب كان علينا الانتظار حتى حلول الظلام لتقوم سياراتٌ أخرى بنقلنا، مع مجموعةٍ من العوائل، إلى منطقةٍ بالقرب من قرية حربل في الريف الشرقيّ لحلب، وهي منطقة اشتباكٍ بين داعش والجيش الحرّ. طلب منا المهرّبون المشي لمسافة 10 كم، ثم الانتظار لستّ ساعاتٍ حتى الصباح لنعبر إلى المنطقة الخاضعة لكتائب المعارضة، بسبب الاشتباكات المستمرّة. شاهدنا عدداً من الجثث في طريقنا إلى الطرف الآخر، يقول المهرّبون إنها جثث مدنيين قضوا بسبب زرع التنظيم الألغام في الطريق». يرى خالد أن منع التنظيم الأهالي من الخروج من مناطقه هو محاولةٌ منه للاحتماء بهم ضدّ أيّ هجومٍ محتمل، مما يجعل تحرير الرقة أمراً صعباً.
* أسهمت «عين المدينة» بهذه المادّة في عددٍ خاصٍّ عن سورية من جريدة ليبراسيون الفرنسية، صدر في 11 آذار الجاري. كلّ الشكر للدكتورة هالة قضماني محرّرة العدد على هذه المبادرة وعلى جهدها.