- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في الحسكة.. أقل من 20 دولاراً راتب الموظف في مؤسسات النظام وطلاب الجامعات: ننام جوعانين
تسبب التراجع المتواصل في قيمة الليرة السورية، ولا سيما في تدهورها الأخير بتلاشي القيمة الفعلية لرواتب الموظفين بمدينة الحسكة التي ما يزال النظام يحتفظ فيها بجيب سيطرة يضم بعض المؤسسات الحكومية والمدارس. هذا التدهور نقل الموظفين ومعهم مئات المعلمين والمعلمات، من مستوى اقتصادي وسط بالنسبة لمدينة فقيرة مثل الحسكة إلى مستوى هو الأدنى بين الفئات العاملة الأخرى.
تُلخِّص قصة أحمد المدرس في مدارس الحسكة التابعة للنظام، مسيرة الفئات الوسطى في التدهور المستمر ثم السقوط مؤخراً. فقبل 10 سنوات قارب مجموع راتبه الشهري وراتب زوجته أن يصل إلى ألف دولار، ما مكَّنه وقتها من امتلاك منزل لأسرته الصغيرة المكونة من ثلاثة أطفال والأبوين. وأما اليوم فيساوي راتبهما 35 دولاراً وفق أعلى أسعار الصرف الحالية للَّيرة. لا يكفيهما هذا المبلغ أكثر من خمسة أيام في الشهر، ويضطران بعدها إلى الاستدانة. لكن ذلك لم ينجح في تلافي الآثار القاسية للوضع المعيشي على أحمد وأسرته، الذي يختتم القصة بالقول "عرضنا منزلنا للبيع من أجل سداد الديون المتراكمة".
بينما يختلف الأمر بنسبة بسيطة في المناطق التي تسيطر عليها "الإدارة الذاتية"، فللحد -على ما يبدو- من آثار قانون قيصر، قرر القائمون على الإدارة زيادة رواتب العاملين لديها بنسبة 30% اعتباراً من بداية الشهر الجاري، بعد أن امتص تدهور الليرة السورية الزيادة الأولى التي كانت بنسبة 150% وحاولت استباق تداعيات فرض قانون قيصر في أيار العام الماضي، إذ وصل حينها سعر الصرف قرابة 2500 ليرة سورية للدولار الواحد، أما اليوم فسعر الصرف يتراوح بين 3500 إلى 4500 ليرة للدولار. في حين تعود آخر زيادة للأجور قررها النظام إلى تشرين الثاني 2019.
يمكن اعتبار الطلاب الجامعيين الفئة الأكثر هشاشة وتأثراً من بين الفئات الوسطى التي تعيش في المدن، إذ تنص القاعدة على تفرغهم للتحصيل الدراسي، خاصة أولئك الطلاب الذين يقيمون مؤقتاً في مدينة الحسكة حيث تقل فرص العمل، ويحدد بعضهم الحد الأدنى لمصروف الطالب منهم في الأسبوع بـ25 ألف ليرة قبل ارتفاع الدولار، أما اليوم فمبلغ 50 ألف لا يكفي مصاريف أسبوعية، حسب الطالبة رهف من كلية التربية في جامعة الفرات. تقول الطالبة القادمة من القامشلي إلى الحسكة: "والله عم ننام جوعانين".
تقارن الشابة التي بدأت تعاني من أعراض نظامها الغذائي الفقير بين الطبخ في المنزل والأكل الجاهز، لتصل إلى أن الوجبات الجاهزة في الأسواق، أرخص من الطبخ في المنزل. تنوع رهف طعامها اليومي حسب ما يتوافر لديها من المال، بين الفلافل ووجبة الشاورما أحياناً وكوجبة طعام واحدة في اليوم بسبب ارتفاع سعرها إلى 4100 ليرة.
في الريف تقل تعقيدات الحياة، وتخف معها نسبياً الضغوطات الاقتصادية التي يعانيها سكان المدن، غير أن ذلك لم يشفع للموظف المستخدم خليل (43 عاماً). لكن ”الفروقات ضئيلة“ وفق ما يرى خليل (43 عاماً) وهو فلاح وموظف من رتبة متدنية في الوقت نفسه. يقول خليل لـ“عين المدينة“ إنه اضطر لاستخدام المساحات الفارغة حول بيته لزراعة خضروات موسمية تساعده في المعيشة، "60 ألفاً لا تسد شيئاً، لدي 5 أطفال وزوجتي. نحاول الاقتصاد في المصروف لنتدبر أمورنا". علاوة على ذلك، يساعد التكافل والتضامن الاجتماعي أهالي الريف من الموظفين في المؤسسات على تجنب الضغوطات الاقتصادية التي يعانيها أقرانهم في المدن، كما أكد أكثر من شخص تحدثت معهم ”عين المدينة“.
يعمل عبد الفتاح (27 عاماً من مدينة القامشلي) في مطعم بيتزا، ويضطر إلى تحويل مبالغ شهرية إلى أهله من ألمانيا حيث يقيم منذ سنوات، تتراوح المبالغ بين 100 و400 يورو، "حسب المتوفر والحاجة". ويعبّر عبد الفتاح عن حال الكثير من الشباب الذين هاجروا إلى أوروبا أو دول الخليج نتيجة للظروف السياسية والاقتصادية، أو للهروب من الخدمة العسكرية لدى النظام والتجنيد الإجباري الذي تفرضه "الإدارة الذاتية" في مناطق سيطرتها.
يقول عبد الفتاح إن نصف راتب والده التقاعدي لا يكفي لأكثر من وجبة غداء مكونة من دجاجتين وكيلو أرز، وأنه في بداية وجوده في أوروبا عندما لم يكن يعمل، اضطر والده إلى بيع الأرض التي يملكها من أجل بناء منزل، "باعها بالليرة السورية، لكن لم يتمكن حينها من البناء لعدم توفر مواد البناء، ثم صار سعر الأرض لا يكفي لبناء غرفة بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية مع ارتفاع الدولار".
حسب من تحدثت معهم ”عين المدينة“ من أهالي مدينة الحسكة وبعض القرى التابعة لها، فإن الحد الأدنى للمعيشة صار يتطلب 500 ألف ليرة سورية، وهو مبلغ لا يستطيع بيروقراطيو المؤسسات تأمينه من أجور وظائفهم، لكن مقابل تهاوي الفئات الوسطى المرتبطة بالمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية الخاضعة لـ“الإدارة الذاتية“، ظهرت فئات وسطى جديدة مرتبطة بالمنظمات، لكنها دون أمان وظيفي، فعملهم مرتبط بشكل دائم بإغلاق المنظمة أو صعوبات تمويلها أو تجميد أعمالها، بينما يصعد أثرياء جدد من المتنفذين لدى ”الإدارة الذاتية“ أو النظام، إضافة إلى التجار الذين تبنتهم كلا الجهتين المسيطرتين على قسم كبير من أراضي محافظة الحسكة. كما يتعاظم دور العاملين في التهريب، سواء على الحدود الخارجية مع العراق وتركيا، أو على الحدود الداخلية مع مختلف جهات السيطرة، ويشمل التهريب البشر والمخدرات والحشيشة والنفط وغيرها.
قبل الآن، لم تكن مألوفة في الحسكة مناظر شبان وفتيان يحملون شوالات على ظهورهم لجمع المواد البلاستيكية والزجاجات الفارغة، لكن تجمعاتهم الكبيرة اليوم في سوق الهال بعد انتهاء التسوق تعد مؤشراً على تردي الأوضاع، فكثرة العاملين في هذا المجال لا يدل على ارتفاع المردود منه، إذ يضع معمل تكرير المواد البلاستيكية في القامشلي سعراً لشراء الطون من تجار الخردة 10 آلاف ليرة فقط، حسب أحد المطلعين من الحسكة.
ذات المبلغ (10 آلاف ليرة) يشكل الأجر اليومي للعامل الماهر في القطاع الخاص، وهو مبلغ جيد قياساً بأجور الوظائف، كما يرى حسام الذي يضطر إلى الدمج بين وظيفته في القطاع العام وعمله الخاص في مجال البناء: "عمل 5 أيام بالشهر تعادل راتبي بالكامل، لذلك أفكر ملياً بترك الوظيفة والتفرغ للعمل الحر".