بعد سيطرته على دير الزور قام التنظيم باعتقال العديد من عناصر الفصائل التي قاتلته، ووصل عددهم إلى اثنين وأربعين شخصاً من قرية حطلة مدخل المدينة الشماليّ ومحيطها فقط، وظلّ مصيرهم مجهولاً حتى وقتٍ قريب.
وأثناء تمدد التنظيم وقع العديد من الضحايا المدنيين، كما دمّرت ممتلكات آخرين لم يدخلوا في القتال. وقد دفع التنظيم، ممثلاً بالوالي، الدية لذوي المدنيين، كما عوّض أصحاب الممتلكات المتضرّرة، بعد مدّةٍ من استقراره في دير الزور. تزامن ذلك مع إعدام بعض الشرعيين والقضاة، كأبي عمر الكويتيّ، لضبط لا مركزية الفتوى إن صحّ التعبير. وقد فتحت "بادرة" التعويض باب الأمل لدى بعض الأهالي، فراح ذوو معتقلي الفصائل يطالبون بمعرفة مصير أبنائهم، رغم أن الكثير منهم عرف أن التنظيم أعدمهم عبر تسريباتٍ جانبيةٍ -بحسب ما أفاد بعضهم- حتى أرسل "ديوان الخلافة" منذ أكثر من شهرين مندوباً يحمل ورقةً تقرّر أن من يبحثون عنهم قد قتلوا أثناء الاشتباك، وهم خمسة وعشرون شخصاً يبدو أن التنظيم أراد التخلص من دفع دياتهم، كما يحلل إعلاميون في المدينة
قد تسلط هذه الحوادث الضوء على إدراك التنظيم حاجته إلى سحب الإفتاء والاجتهاد من قادته الميدانيين، ودفعه نحو تكريس "السلطة التشريعية" في أيدي "شرعيين سياسيين" أكثر واقعيةً، فرضوا مع الزمن رؤيتهم على كلّ مفاصل الحكم. وتظهر "السلطة التشريعية العليا" التي تراقب وتجتهد اليوم في جميع القرارات والأوامر التي تتبعها "أجهزة" التنظيم (كالشرطة والحسبة). ففي ملصقٍ أصدرته مكتبة الهمة بعنوان "اللحية سمت المسلمين" جاء: "على وليّ الأمر، خاصّةً رجال الحسبة، نهي حالقي اللحى عن منكرهم"، و"جزى الله الإخوة في ديوان الحسبة في الدولة الإسلامية على إصدارهم أمراً يمنع المخالفين من حلق اللحى ومحاصرة المقصّرين على ذلك". ويظهر جلياً في المنشور أن الخطاب موجّهٌ من سلطةٍ تشريعيةٍ منفصلةٍ عن الأجهزة التنفيذية (وليّ الأمر) التي تبنت تلك "الفتوى". وعلى ما يبدو، تساير شكليات الخطاب أحد مبادئ التنظيم التي عبّر عنها في خلافه مع جبهة النصرة، عبر منشورٍ وزّعه في دير الزور يؤكّد "عدم جواز فرض الإمام اجتهاده على عوامّ المسلمين".
وقد نُقل مؤخراً عن عناصر في محكمة مدينة الميادين صدور فتوى عن أبي بكر البغداديّ تبيح قطع يد سارق المال غير المحرز، بعد انتشار سرقة الدراجات النارية هناك، لتبيّن قصر دور القضاة على الحكم بالقوانين وليس إنتاجها. ورغم أن القضاة يتحكّمون في كثيرٍ من التفاصيل في ثنايا أحكامهم (كالتحقيق وتقييم القضية)، لكنهم لم يعودوا قادة الجماعات التي تشارك في المعارك وتفرض القوانين في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم كما كان ينقل عنهم؛ يعتقلون المناوئين ويصدرون أحكاماً بحقهم وينفذونها ثم يأتي دور "الوالي" أو "ديوان الخلافة" لتصحيح ما ترتب عليها، من دفع الديات أو التنصّل أمام الأهالي. كما لم يعد القضاة يعتمدون على تقديراتهم الشخصية في ترجيح ما يجب عمله، ليظهر عناصرهم في تلك الجماعات بتلك المزاجية التي يستطيعون بها اختراع المخالفات للاعتقال. بل أصبحوا "قضاةً" متفرّغين أكثر لمهنتهم، يمارسون الرقابة على بعضهم، فالقضية الواحدة يحكم فيها ثلاثة قضاةٍ لتحصين أحكامهم على ما يبدو.
في السياق ذاته، وعلى المستوى الرسميّ على الأقلّ، يأتي تجنب عناصر الشرطة -خارج أوقات عملهم- اعتقال المخالفين، وتجنّب السجّانين ضرب المعتقلين دون أمر القاضي، وتجنّب الأمنيين اعتقال المدخّنين أو مقصّري اللحى عند تفتيش أحد المنازل، كما تفيد العديد من الشهادات. الأمر الذي يفصح عن وضع الأجهزة الحاليّ كأداةٍ لتنفيذ الأوامر لا غير.
أكثر من ذلك، فإن "الجهاد الذي هو فرض عين على أمة الإسلام"، بحسب شرعيي التنظيم، ليس مفروضاً على "عوامّ المسلمين" حتى الآن عن طريق التجنيد الإجباريّ على سبيل المثال. الأمر الذي يبيّن مدى الانفصال بين "النظرية" التي يطرحها شرعيو التنظيم والاعتبارات التي تراعى عند فرض القوانين والقرارات.
يرد في أحد كتيّبات التنظيم المخصّصة للدورات الشرعية، واسمه "التقريرات المفيدة في أهم أبواب العقيدة"، تحت عنوان الفصل بين السلطات: "المقصود من هذا الأمر في الأصل هو فصل الدين عن الحكم والسياسة والنظام الداخليّ. وهذا مبدأ العلمانية التي قامت في بلاد الكفر والتي أريد بها التحلل من تعاليم الدين وقيمه. وقد جاء الطواغيت بهذا الكفر إلى بلاد المسلمين ليبعدوهم عن تعاليم الإسلام وقيمه ومبادئه ويلقوا بهم في براثن الشرك والوثنية والتحلل الأخلاقيّ". فهل يعي "منظّرو" التنظيم معنى فصل السلطات؟