- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
عن هجرة الحكومة إلى الجورة والقصور.. انتقلت المحكمة إلى المحافظة، والثقافة إلى البيئة، ونقابة المعلمين إلى الاتحاد النسائيّ
في دير الزور، وإثر اندلاع المواجهات العنيفة بين الجيش الحرّ وقوّات الأسد، صيف عام 2012، توقف العمل في جميع المؤسسات الحكومية في مركز المدينة، ليُستأنف بعيداً عن مقرّاتها الأصلية، في أماكن آمنةٍ في كلٍّ من حيّي الجورة والقصور.
هو نوعٌ سوريٌّ خاصٌّ من أنواع الهجرة في زمن الحرب. حين ينتقل بحرٌ حكوميٌّ، من موظفين وأوراق وسجلاتٍ، بين ليلةٍ وضحاها، إلى مكانٍ آخر. ولنتخيّل نزوح ورقيات مديرية التربية –أو أيٍّ من المديريات- من مقرّها الرئيسيّ، محمّلة في شاحناتٍ صغيرةٍ لمتعاطفين "وطنيين"، لم يبدوا تبرّماً بحمل أطنانٍ من الأوراق المطبوع في أعلاها (الجمهورية العربية السورية؛ وزارة التربية؛ مديرية تربية دير الزور) قبل أن تضغط في بضعة صفوفٍ من ثانوية زكي الأرسوزي في حيّ القصور.
لا شيء يواسي "مديراً عاماً" في غرفةٍ ضيقةٍ تخلو من فخامة الكرسيّ الدوّار سوى نظرةٌ إلى مديرٍ آخر
ويحـمل السـؤال "إلى أين نزحت الأوقاف؟" –مثلاً- متعةً لأبناء دير الزور، تفوقها متعة الجواب: "إلى غرفةٍ ملحقةٍ بجامع التوبة". ويبدو الشخص العارف لمستقرّات نزوح هذه المؤسسات شخصاً ذا علمٍ بين سواه ممن انقطعوا عن معطيات المدينة وحياتها السابقة. ويكشف انضغاط القطاع العام كله في حيّزٍ ضيّقٍ، في الجغرافيا والمكان، جانباً من الطرافة، ويوحي لمنتقديه والمتذمّرين من روتينه وتقاليده شماتةً بمصير كتلةٍ ثقيلةٍ شكلت جزءاً من عالمٍ سوريٍّ فاترٍ ومليء. فمن خطر له يوماً أن تُحشر دائرةٌ ذات مكانةٍ وازنةٍ مثل مؤسّسة المياه، ذات المقرّ الشامخ بطوابقه الخمسة –مع القبو- وبعديد موظفين من رجالٍ ونساءٍ يتعدّى الألف، في محطة تصفيةٍ هامشيةٍ مثل محطة الجورة؟! أو أن يُحطَّم كبرياء "الخدمات الفنية" في غرفٍ قليلةٍ في مبنى المحافظة؟ أو أن تكون نهاية مديرية "الكهرباء" في منزلٍ مستأجر؟ وكيف يهان فرع حزب البعث وأمينه وأعضاء قيادته في مبنى اتحاد الفلاحين، كتفاً إلى كتف وطاولةً إلى طاولةٍ مع من كانوا يعتبرون شرب كأس شايٍ في "الحزب" امتيازاً خاصّاً؟ أو كيف يتحمل مزاج نقابة المعلمين المهاجرة ثقل ظلّ الاتحاد النسائي؟!
ورغم الأخوّة النظرية بين أبناء القطاع العام، ظهرت المشاحنات بين الضيوف والمستضيفين، لضيق الأمكنة المتاحة. وسُجّلت حالات اضطهادٍ بحقّ بعض المؤسسات النازحة، دفعت بها إلى الرحيل مجدّداً إلى مكانٍ جديد، في ظلّ فقدان النظام للقدرة وللرغبة في ممارسته أبوّته السابقة. فقد كان ردّ كبار المسؤولين على شكاوى المدراء واحداً: "لاقوا مكان وتعالوا". لتُترك كلّ مؤسسةٍ تتدبّر أمرها بنفسها، وبحسب ما تتيحه علاقات المدير وبعض موظفيه البارزين، أو مهاراتهم في التفاوض، مع أقرانهم في المؤسسات المضيفة.
استقبل مبنى المحافظة، الواقع على أطراف حيّ الجورة، كلاً من مديريات الزراعة والصناعة والتجارة، وكذلك البلدية والمصالح العقارية والخدمات الفنية ودائرة النفوس والمحكمة. ويقدّر عدد الموظفين المفترض دوامهم يومياً في هذا المبنى بـ5000، لا يوجدون في وقتٍ واحدٍ إلا أثناء المناسبات التي يتمّ نقلها عبر تلفزيون النظام على أنها احتفالاتٌ عفويةٌ لمواطنين يعيشون حياةً عاديةً ومستقرّة. وتُبرز خارطة نزوح بقية الدوائر استقبال مديرية البيئة في القصور لكلٍّ من مديريات الثقافة والسياحة والشؤون الاجتماعية. فيما استقبلت رئاسة الجامعة كلاً من الرقابة والتفتيش وجريدة الفرات. ولاذت دائرة التجنيد بمبنىً حكوميٍّ قديمٍ ومجهول الهوية. ولم تصمد "الأعمدة الخرسانية" أمام إعصار الهجرة، فتلاشت إلى غير رجعة. فيما لا يعلم أحدٌ مصير معامل الورق والغزل والسكر وسكة الحديد، التي سُجّلت أيضاً في عداد المفقودين.
مهاجرون وأنصار
يتندّر البعض في دير الزور بفرز الموظفين الحكوميين، داخل مقرّاتهم الجديدة، إلى مهاجرين وأنصار. ويُعرف المهاجر، وفق هذا الفرز، بالموظف المنتمي إلى دائرةٍ فقدت مقرّها الأصليّ، وانتقلت إلى دائرةٍ جديدة. ووفق التصنيف ذاته، يصبح الموظف المنتمي إلى دائرةٍ مضيفةٍ أنصارياً. . ويلحق بكلا الاثنين فرزٌ آخر على أساس السكن الحاليّ، نزوحاً إليه أو إقامةً أصليةً فيه. فنحصل على أنصاريٍّ مقيمٍ وآخر نازح، ومهاجرٍ مقيمٍ وآخر نازح. وإلى جانب هذه التصنيفات الأربعة تظهر طائفةٌ خامسةٌ من الموظفين، وهم المقيمون في الريف (بنوعيهم؛ الأنصاريّ والمهاجر). ومع الجميع يأتي موظفو الرقة أوّل كلّ شهرٍ لاستلام رواتبهم ثم العودة سريعاً، يلاحقهم فضولٌ "ديريٌّ" عن آخر فظاعات "داعش" مع سكان الرقة ونوادرها، باعتبارهم مختبر تجاربها وأبناء عاصمتها. وتشكل كراهية داعش عامل توحيدٍ لموظفي القطاع العامّ، رغم اختلافهم بين مؤيدٍ ومعارضٍ للنظام. ويصغي الجميع لأنباءٍ قادمةٍ من الفضاء القريب، مثل "قطعت داعش رأس عضو مجلس الشعب السابق فلان، وصلبت المدير العام السابق فلان"، أو "ستقطع داعش الكهرباء وتغلق المعابر قبل أن تقتحم الجورة والقصور". تُشرب كؤوس شايٍ وتُشهق سجائر في هذه الأثناء، وتزول الضغائن مؤقتاً بين المهاجرين وأشقائهم الأنصار، ولا تُسمع ساعتها حجّة الموظف التقليدية في التهرّب من طلبات المدير: "شلون أشتغل ووين نقعد قل لي يا استاذ؟ غراضنا كلها تخربطت"، بل تُلبى بخفةٍ ودون عراقيل، كواجبٍ في عالمٍ أليفٍ يُخشى عليه من غزو داعش. ويبرز حسٌّ جمعيٌّ لموظفي القطاع العام السوريين، بحذرهم الزائد من مستقبلٍ مجهول، وحرصهم على حاضرٍ عاقلٍ ومفهوم.
في بعض المباني الحكومية المحتشدة بمؤسساتٍ مختلفة، يلحظ وجود بعض العوائل النازحة، التي تمكنت بطريقةٍ ما من الصمود في وجه محاولات الموظفين لطردها، ونجحت في التمترس في غرفٍ خاصّةٍ ومتابعة حياتها بشكلٍ شبه طبيعيّ. إذ تفوح رائحة الطبخ المنزليّ ظهراً، وتُشاهد حبال غسيلٍ ممتلئة، ويُسمع بكاء أطفالٍ وصيحاتٌ عائليةٌ في الأروقة والمكاتب الرسمية.
معالم من الماضي الجميل
قبل سنواتٍ من التـقاعد، ترتفع الرتبة المعنوية للموظف ويأخذ تقديراً خاصّاً. فلا يُكلّف إلا بما يريد من أعمال، ولا يتقيد بأيام وساعات دوام. ويصبح حضوره، ساعةً أو ساعتين وقت الضحى، أقرب إلى التسلية منه إلى العمل. ومع الشعور المعترف به من الآخرين بأنه أمضى حياته في المؤسسة، ينجح في تعيين واحدٍ أو اثنين من أبنائه، المتعثرين في إكمال تعليمهم، فيها. في حين تقترب الموظفة قبل تقاعدها من صفة الأمّ التي يجب أن تكافئ بتعاملٍ خاصٍّ من قبل زملائها وزميلاتها الأصغر سناً. ويبرز بابٌ آخر للحضور العائليّ في وجود موظفٍ ذي شهامةٍ ونفوذٍ يحشد نصف أقاربه، بالتدريج وبالقانون، في مكاتب المؤسسة وفروعها القريبة والبعيدة.
نتيجة الفوضى، تفوح من جميع المؤسسات قصص فسادٍ وتسيّب؛ فقد أزيلت جناياتٌ كاملةٌ من سجلات القضاء، ومُسحت ضرائب وعقوباتٌ ماليةٌ بحقّ مخالفين.
في كلّ مؤسســةٍ عامةٍ موظفٌ مركزيٌّ يعتمد عليه المدير لدفع حركة العمل كثيرة العثرات، ويبدي نحوه عنايةً فائقةً لأنه يستطيع، لو أحسّ بقلة الاحترام، أن يشلّ العمل كله. ولن يتمكن جيش قليلي الخبرة من فعل شيءٍ حينذاك. ومن السهل أن يُعثر في قوائم موظفي أيّة مديريةٍ على شخصياتٍ شعبيةٍ أو عامةٍ، مثل نجوم رياضةٍ من ناديي الفتوة واليقظة، وُظفوا كبادرة دعمٍ من المؤسسة لكرة المدينة، أو يظهر اسم مشاجرٍ شهيرٍ وُظف، هو الآخر، في بادرة حسن نيةٍ من الدنيا لإصلاحه. وفي مرّاتٍ قليلةٍ يلتبس الأمر بحضورٍ دائمٍ لأحد المختلين العقليين، يطوف بين الغرف، أو يتشاكس مع السائقين والحرّاس على الباب الرئيسيّ، أو يصحب الموظفين الفعليين في مهماتٍ خارجيةٍ بسيارات المؤسّسة.
إنه الماضي الحـكوميّ، يسـطع من الذاكـرة في حاضــرٍ غير سارّ. ماضٍ حازت فيه كلّ مديريةٍ على ذاتٍ وثقافةٍ خاصّةٍ وتراث، وأيضاً مجموعات ضغطٍ ومراكز قوةٍ وقادةٍ تاريخيين تركوا بصمات لم يمحُها، ورغم تلاحق الفصول والأجيال، سوى موسم الهجرة إلى الجورة والقصور.
مع العدد الكبير والفائض عن الحاجة من الموظفين، وتقلّص قائمة المهامّ اليومية إلى حدودٍ دنيا لا تتجاوز الدوام نفسه تقريباً؛ نشأت طريقة دوامٍ جديدةٌ تقوم على مبدأ الورديات، إذ يداوم الموظف أسبوعاً ويتغيّب لثلاثة أسابيع، مثلاً. وحتى في المدارس يتّبع المعلمون هذا المبدأ، نظراً للعدد المخيف من معلمي المناطق المحرّرة الذين سجّلوا مباشراتهم في المنطقة المحتلة. ففي ملاك مدرسة حسان العطرة بحيّ القصور سُجّل 350 معلماً، يتقاسم معظمهم الدوام فيما بينهم، بينما يتغيّب قسمٌ آخر بشكلٍ دائم.