في الحديث عن المادة المعنونة "داعش تعجز عن تشغيل مدارس دير الزور" (العدد 61 من المجلة) ارتفعت أصواتٌ تلقي باللائمة على الثورة، وتتهمها بأنها أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم. واستئنافاً في هذا الباب نعرض لتجربة التعليم (الثوريّ الحرّ) في مدينة دير الزور.
لا بدّ لنا، لاستعراض سير العملية التربوية في ظلّ الثورة، من تتبع الخطّ الزمنيّ لهذه العملية، وربطه بالحدث العسكريّ كمؤثرٍ مباشرٍ عليها، إذ لا يمكن افتتاح المدارس والمعارك تطحن البناء والبنين.
مرحلة الحرب
سيطرت كتائب الجيش الحرّ على معظم أحياء دير الزور، منتصف حزيران 2012، واشتعلت المعارك في اليوم 22 من الشهر نفسه. كانت مادتان قد بقيتا حينها لانتهاء امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية. شكّل هذا أوّل اختبارِ للجيش الحرّ، مجموعاتٍ وأفراداً، في قضية التعليم، اجتازه بنجاح. إذ حرصت معظم الكتائب على إتمام الامتحانات، وسهّلت انتقال الطلاب والمعلمين والطواقم التربوية، وأقامت حراساتٍ خاصّةً للمراكز الامتحانية، ولم تسجَّل أيّ تجاوزاتٍ إلا في نطاقٍ محدودٍ جداً لم يؤثر على إكمال الامتحان داخل المدينة بنجاح. بعد ذلك توقف العمل التعليميّ لمدّة سبعةٍ أشهر بشكلٍ كاملٍ بسبب الحصار الخانق الذي فرضته قوّات الأسد على الأجزاء المحرّرة من المدينة. لكن، وبعد فكّ الحصار بتحرير "جسر السياسية" في الجهة الشمالية من المدينة، ظهرت أولى المحاولات لإطلاق العملية التعليمية فيها.
مرحلة التأسيس 2013
ما إن هدأت موجة المعارك ونوبات القصف الهستيرية بعد فكّ الحصار، حتى انطلقت الأنشطة المدنية بزخمٍ جديدٍ، وخاصّةً في الجانب التعليميّ، فظهرت مدرسةٌ ابتدائيةٌ في حيّ الشيخ ياسين اتخذت اسم الشهيد "عبد الله الحيجي"، وأخرى في حيّ العمال أخذت اسم "وصال المداد"، استوعبتا غالبية الأطفال في الأحياء المحرّرة.
في الظلّ، كان العمل جارياً على تشكيل مجلسٍ محليٍّ منتخبٍ، بالتزامن مع عملٍ تحضيريٍّ شاقٍّ لإطلاق بعض المدارس الابتدائية في البيوت، وتأمين ما يلزم من كتبٍ مدرسيةٍ ودفاتر وتجهيزاتٍ أخرى لتحقيق أفضل ما يمكن في ظروف الحرب. فيما عمل مدرّسون آخرون على مشروع مدرسةٍ ثانويةٍ اكتمل العمل به بعد أشهرٍ، لتنطلق مع العام الدراسيّ التالي. وشكّل هؤلاء المدرّسون -الناشطون في تجهيز المدارس- المكتبَ التربويّ في إطار المجلس المحليّ، الذي أعيد انتخابه بعد ذلك.
المثال الحقيقيّ 2014
في العام الدراسيّ 2013-2014 بلغ عدد المدارس العاملة في المدينة 17 مدرسةً، إلى جانب ثلاث مدارس احتياطيةٍ مجهزةٍ لاستيعاب الطلاب في حالة تعرّض إحدى المدارس العاملة للقصف. وبلغ عدد العاملين في الجهاز التعليميّ الناشئ آنذاك 135 بين معلمٍ وإداريٍّ ومفتش، فيما تجاوز عدد الطلاب أوّل العام ثلاثة آلاف طالبٍ وطالبةٍ، ليرتفع إلى 3500 في نهاية العام. وكان التعليم للمراحل الثلاث، وللجنسين (فوج إناثٍ وفوج ذكورٍ في المدرسة الثانوية). ويسجّل للمعلمين الذين شغّلوا هذه المدارس إصرارهم وتفانيهم بالرغم من المخاطر والعوائق التي هدّدت العملية التعليمية برمّتها، مثل القصف المستمرّ وغياب التمويل اللازم لدفع رواتب منتظمةٍ للمعلمين، في ما خلا مكافأةً لم تتجاوز (30) دولاراً لقاء عمل عدّة أشهرٍ، دفعها المجلس المحليّ، ومكافأةً أخرى دفعتها إحدى المنظمات في نهاية العام في سياق مشروعها لرعاية العملية التعليمية وترميم بعض المدارس في دير الزور. يقول مثنى العمر، وهو مدرّسٌ ورئيسٌ سابقٌ للمجلس المحليّ: "لقد أدار لنا الائتلاف والحكومة المؤقتة ظهورهم في ما يخصّ رواتب المدرّسين، لكن الكادر التدريسيّ كان مصرّاً بعزيمةٍ عاليةٍ على إنجاز عمله على أفضل وجهٍ حتى لو بالمجان".
حازت التجربة التعليمية الحرّة في دير الزور ثقة السكان واهتمام المنظمات ذات الصلة. يقول محمود إبراهيم، مدير المكتب التربويّ آنذاك: "استطعنا، بجهودٍ جماعيةٍ، استعادة مئات الأطفال من الشوارع ومن الجبهات وإعادتهم إلى التعليم. كما استطعنا استقطاب عشرات العائلات من مناطق النظام بعد إحساسهم بالاستقرار التعليميّ وجدّية العملية التعليمية في المناطق المحرّرة".
وقعت التجربة التعليمية "الحرّة" في مدينة دير الزور في بعض الأخطاء التي نجمت، في المجمل، عن أسبابٍ خارجةٍ عن إرادة القائمين عليها. شكّلت ظروف الحرب عاملاً رئيسياً فيها. يضاف إلى ذلك الدور السلبيّ الذي لعبته العزلة النسبية لتجربة دير الزور وابتعادها عن سياق التجارب التعليمية الأخرى في المناطق المحرّرة. وكان لفشل الحكومة المؤقتة في بناء وزارةٍ ترعى وتخطّط للعمل التعليميّ أثرٌ في بعض الأخطاء المرتكبة في هذه التجربة التي أجهضت قبل أن يتاح لها الاكتمال، باحتلال "داعش" للمحافظة صيف العام 2014.