- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
على هامش الحرب.. مرضى ومجانين في شوارع دمشق
تجلس هناك في إحدى زوايا السوق، وصرة ملابس صغيرة في حجرها، تتأمل وجوه المارة، تتقاطع نظراتها للحظات بنظرات بعضهم، لكنها في مكان آخر، تبدأ حديثا غير مفهموم مع إناس تتخيلهم، تنفعل ثم تضحك، وما تلبث أن تشيح بوجهها عنهم.
منيرة فقدت عقلها قبل سنوات، لا يعرف أحد كيف حدث ذلك، وتبدو شقيقتها سناء مشغولة بمأساتها الخاصة، حيث فقدت زوجها وابنتها الصغرى، وتعمل اليوم في صالون تجميل للسيدات. تشكو أحياناً من آلام في ذراعيها بسبب التهاب الأعصاب، مما يعيقها عن عملها الذي يعينها على الصمود أمام ما مرت به. ترافقها منيرة أختها الكبرى، لتفترش الزاوية إلى جانب الصالون، وتجلس متأملة في دفء الشمس. سناء لم ترَ زوجها مقتولاً ولم تصدق، وبعد سنوات من نزوحها عن منزلها في عدرا ما زالت تأمل بأنه حي، رغم أن أحدهم أخبرها بأنه رأى رأسه مقطوعاً وملقى على قارعة الطريق. لاحقاً اكتملت المأساة بفقدان ابنتها الصغرى إثر إصابتها بشظية في الرأس أثناء قصف على حي دويلعة: «ما لحقناها. حملتا بين إيدي وركضت ع المشفى بس ما لحقت. ماتت بين إيدي ع الطريق».
تكفكف دموعها: «ضليت شهور حس بدمها سخن ومدبق ع إيدي»، خضعت سناء للعلاج النفسي مما يسمى اضطراب الرض بعد الشدة، وهو اضطراب نفسي يحدث بعد تعرض المرء لموقف يهدد حياته أو حياة أحد المقربين، ومعاينة الموت بشكل شخصي، حيث يسيطر الخوف الشديد على المريض، وينحو باتجاه العزلة، ويعاني من كوابيس ونوم مضطرب مع ذكريات مؤلمة وحالات هياج.
بات من الصعب أن تجد في سورية عائلة أو حتى فردا لم يمر خلال السنوات المنصرمة بحادث أليم أو لم يفقد عزيزا، فالكل بات يعيش في إحدى مراحل الحداد، وما إن يخرج منها حتى يعود. فشادي، الذي كان شاباً في العشرين ضمن صفوف جيش النظام في دير الزور عند دخول داعش، شاهد صديق طفولته يجز عنقه ويذبح، اختبأ شادي مذعوراً ولم ينبس ببنت شفة خوفاً على حياته، ابتلع أنفاسه وتكور على نفسه، تاركاً صديقه يقتل وحده، ليعود هو إلى أهله نصف مجنون من هول ما رأى، كان محظوظاً بما فيه الكفاية ليعود إلى عائلته، التي خسرت بعد أشهر ابنها الأكبر في تفجير سيارة مفخخة في جرمانا. نجا شادي مرة أخرى من الموت، لكنه لم ينجُ هذه المرة من رائحة أخيه الأكبر وهو يشوى حياً، ولا من صوت صراخه الذي يملأ أذنيه ليلاً فيمنعه من النوم، لينهض كملسوع يذرع البيت جيئة وذهاباً. ارتأت العائلة بعدها أن تبعد ابنها الناجي من الموت إلى البرازيل، فعلاجه النفسي وإن اكتمل فمن غير المرجح أن يصمد في مواجهة ثالثة.
أما سلمى فمستمرة بالبحث عن زوجها وأبو بناتها الثلاثة الذي فقد عقله إثر اعتقاله لدى مروره من أمام حاجز في نهر عيشة: «زتوه من السيارة بالشارع، ما كان بيعرف مين هو ولا وين، بس الجيران عرفوه وجابوه ع البيت، ما قدرنا نعرف منه شي ولا لحقنا نعرضه ع دكتور». في اليوم الثالث لعودته خرج من المنزل ولم يعد. «ما لحقنا نفرح فيه، كانت الناس بعدها تهنينا بسلامته لما اختفى». وما زالت تبحث عن زوجها آملة عودته إلى بيته يوماً.
لا إحصائيات دقيقة عن حالات الرض بعد الشدة، في ظل رحى الحرب المجنونة، وفي مجتمع ما زالت تنظر بعض شرائحه إلى الإصابة النفسية على أنها أمر ثانوي، عدا عن الوصمة المرافقة للمرض النفسي، ويبدو للمتابع أن الوضع يتعدى الحالات الجلية والمشخّصة، فالاكتئاب والإحساس بالعجز واليأس يسيطر على الشريحة الشابة ويقعدها عن الإنجاز، ومن غير الممكن رصد أو قياس الآثار النفسية على الشرائح العمرية الصغيرة التي تترعرع في هذه الظروف من الحرمان والقلق والخوف، وهو أمر لن ننتظر كثيراً حتى تظهر نتائجه الكارثية على بنية المجتمع. لكن الملاحظ مؤخراََ انتشار ثقافة العلاج النفسي والتحليل على خجلها في وسط الشباب الذي بدأ يبحث جدياً عن حلول لأزماته النفسية، متقبلاً العلاج النفسي ومشجعاً عليه، وإن نظر إليه كشرٍ لابدّ منه.