- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
عامر السيد.. والتصالح مع الذات
لسنوات وأنا أكره علم العروض. لم ألق باللائمة في ذلك على مدرّس اللغة العربية في الصف العاشر، عامر السيد, وبقيت أكنّ له احتراماً ليسَ مبنياً على جودة رأيه وحسن معشره, الخصلتان اللتان لم ألاحظهما حين كان مدرّسي في ثانوية علي إبراهيم, وإنما على دعاية اجتماعية فرضتها علاقته ببعض الأقارب والمعارف من بقايا المتمردين على الأسد في الثمانينات من تنظيم «الطليعة المقاتلة», حتى رأيته يتجاوز طابور الخبز وكأن له امتيازاً على الناس بصفته مدرس القرآن لأبنائهم. وهنا كان لا بد من مراجعة هذه الشخصية والعلاقات الاجتماعية والتركة البائسة للطليعة المقاتلة, الأمر الذي احتاج عقداً من الزمن, وثورة, ومئات الآلاف من الشهداء.
هرب عامر السيّد -كغيره من مشايخ المعارضة الهاربين إلى مناطق النظام- إلى الحسكة مع الطلقات الأولى لعمليات التحرير التي أطلقها الجيش الحر في دير الزور في حزيران 2012. وعمل هناك مع «أحمد طعمة» في حملة الإغاثة المسماة «كلنا للشام» الممولة قطَريّاً، عملاً مأجوراً، ثم عاد إلى ريف دير الزور صيف 2013, ليدخل المدينة في الخريف، الفترة الذهبية للثورة هناك.
«الحمد لله» هي الإجابة المتوقعة لسؤال «شلونك؟», لكن السيد استبدلها بـ«والله بهالجهاد» بعد أيام قليلة من دخوله المدينة، في محاولة لإضفاء طابع التميز والسبق على نفسه بخلافنا نحن العوام السُّذّج. ثم أصبح شرعياً في حركة أحرار الشام التي حاصرت أحياء الجورة والقصور بعلمه، إن لم يكن بفتوى منه. وفي محاولة تذلل منه لجبهة النصرة أدخل ابنه فيها (قُتل لاحقاً بمعارك الجبهة في مطار أبو ظهور)، وحابى تجبرها بكل الفتاوى السلطانية. فبعد أن خطفت الجبهة سبعة ثوار كانوا من القائمين على مظاهرات تدعو إلى توحيد الجيش الحر، يقول الدكتور أنس فتيح: «حينها خرجت مظاهرات احتجاجية، فقال عامر السيد عنها إنها مشبوهة وإنه يرجح أن تكون ممولة. وعندما رد عليه أحدهم أن في المظاهرة فلاناً وفلاناً، وهم معروفون بمواقفهم، قال عامر بالحرف: «ستبدي لك الأيام ما كنت تجهله».
برغم الجبهة وهيئتها الشرعية خرج المخطوفون تحت الضغط الشعبي. وهنا تأتي شهادة معاذ الناصر، أحد هؤلاء المخطوفين: «بعد خروجنا، وذهابنا عدة مرات للهيئة لاسترداد أغراضنا المنهوبة، جلس عامر السيد معنا على أساس جلسات نصح، وكان يدافع عن الجبهة والهيئة، وكان يعتبر داعش لا يفقهون شيئاً في الدين».
وبينما كان السيد يردد جملته: «ابتلي الإسلام باثنين لصقوا اسمهم باسمه، الجمهورية الإسلامية وحزب الله، وجاءت ثالثة الأثافي، الخلافة الإسلامية»؛ دخل التنظيم المدينة وفرض سيطرته على المحافظة في تموز 2014, فما لبث السيد أن أماط القناع عن وجهه في اجتماع جامع حرويل, والذي عقده التنظيم لموضوع التعليم بحضور أكثر من 50 مدرساً بينهم أساتذة كبار وأعضاء المكتب التربوي في المجلس المحلي الذين حاججوا أبو المنذر المصري (أمير ديوان التعليم حينها) الذي كان قد اقتنع لولا تدخل السيد قائلاً: «الشيخ يتكلم في وادٍ وأنتم تفهمون في وادٍ آخر! هذه المناهج زُبالة، وعلينا أسلمتها قبل افتتاح المدارس». فزاود على الجميع وكفّر المكتب التربوي الذي يرتبط بالحكومة المؤقتة «الكافرة» على حد زعمه (الحكومة التي يرأسها أحمد طعمة ذاته مدير حملة كلنا للشام!!). يقول محمود إبراهيم، مدير هذا المكتب آنذاك: «وشى بنا طمعاً أن يشغل منصبنا الذي لا يساوي أمام الله والتاريخ نقطة دم تراق بباطل. لقد تسبب في هروبي من المدينة أنا وكثير من المدرّسين، وفي قطع أرزاق آخرين ممن وشى بهم، وفي إعدام كثيرين، ولديّ أسماء من تسبب في استشهادهم».
أدخل السيد ابنه الثاني في صفوف داعش، وقُتل أيضاً في معارك الجبل بدير الزور. أما هو فالتحق بالدورة الشرعية لاستتابة المعلمين علّه يحظى بمنصبٍ ما، لكن التنظيم اعتقله بتهمة أنه كان شرعياً في أحرار الشام، الأمر الذي لو شهد عليه أبناء دير الزور لقُطع رأسه. وخرج وهو يسبّ التنظيم في الخفاء، حتى رأيناه في إصدار «لبوا النداء» مبايعاً، ليعيّن أميراً في المكتب الدعوي، أخطر المكاتب على الشباب والأطفال.
كل هذا في السياق الطبيعي لأستاذ اللغة العربية الذي كان يرفض تدريس محور المرأة في مقرّر الثانوية العامة، فببيعته تصالح عامر السيد مع ذاته, على عكس تناقض المدافعين عنه من الثوار والناشطين -القاطنين في «بلاد الكفر»- بذرائع مختلفة، فبعضهم اعتبره المعلم والعرّاب وحامل العلم الشرعي، وبعضهم رأى أنه «سلك طريق الجهاد»!!, وكأنما يعتمل في دواخل هؤلاء داعشيٌّ صغير يطلّ كلما اقتربنا من رجلِ دينٍ، وكأن التنظيم لم يكفرنا ويشردنا جميعاً، ولم يقتل إخوةً لنا بعضهم لم نعرف قبورهم بعد!