- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
شقيقتان في التضحيات والدمار.. قصة مدينـــتين: عن ثورة حمص الشاملة واستعصاء حلب المدمَّرة
قدمت مدينة حمص حتى الآن 10800 شهيد قرابين لثورة الحرية والكرامة، كما قدمت حلب 10000 شهيد، لتتشابه المدينتان في حجم التضحيات لإسقاط نظام الأسد. إلا أن اختلافات جوهرية بين المدينتين قد تبرز من خلال مراحل الحراك الثوري منذ بدايته في سوريا، مع تشابه بنسبة المؤيدين واختلاف في انتمائهم الديموغرافي، فالموالون للنظام في حمص هم أحياء الطائفة العلوية التي ينتمي إليها بشار الأسد، بينما مؤيدو النظام في حلب هم من طبقة التجار والأثرياء ورجال الأعمال الذين ترتبط مصالحهم بشكل وثيق مع النظام.
البداية: دراماتيكية في حمص ومباغتة في حلب
أذهلت مدينة حمص السوريين والعالم بقوة احتجاجاتها المناهضة للنظام، فدخلت في الأسبوع الثاني من عمر الثورة في الحراك الشعبي لمساندة درعا مهد الثورة. ومنذ ذلك الوقت تحولت مطالب المتظاهرين من التنديد بقمع الأسد لأهالي حوران إلى المطالبة بالحرية وإسقاط النظام. والملفت كان حجم المشاركة الكبير للأحياء القديمة والشعبية والراقية، ما لم ينجح في تحقيقه ثوار مدينة حلب، حيث بدأ الحراك بإيقاع بطيء مكّن النظام من البطش بالثوار والتنسيق مع عملائه والمرتبطين معه مالياً وأيديولوجياً لتنظيم مسيرات مؤيدة حاشدة تساند النظام في قلب المدينة.
شاركت أحياء حمص القديمة بقوة في إشعال الحراك المناهض للأسد ونظامه الدموي وفساده عبر عقود، وشكلت أحياء باب السباع وباب الدريب وباب هود وبستان الديوان والحميدية والسوق القديم وجب الجندلي عنصراً قوياً للحراك السلمي. مما فاجأ حتى النظام الذي لم يستطع وأد هذه التظاهرات، بالرغم من حجم القمع الكبير وقتل الكثير من الناشطين والإعلاميين وزج آلاف الشباب الثائر في السجون والمعتقلات. وواكبت الأحياء الكلاسيكية الأخرى هذا الحراك بشكل سريع ومواز للأحياء القديمة، فدخلت أحياء الخالدية وجورة الشياح والقصور على خط الثورة بقوة، ونظمت مظاهرات حاشدة داخل أحيائها، إلا أن دخول حي بابا عمرو كان الأبرز والأقوى، وشكل مفصلاً في تاريخ الثورة وتحول إلى أيقونة لها. وما ميزه هو استعصاؤه على القمع الأسدي الذي عجز عن اقتحام الحي لأشهر طويلة، في حين تمكن من ضبط إيقاع الاحتجاجات في حي باب السباع لمجاورته للأحياء الموالية.
وعلى الرغم من خروج أول مظاهرة مناهضة لنظام الأسد في حلب في "جمعة العزة" بتاريخ 25 آذار سنة 2011، إلا أنها لم تصل إلى قوة حركة الاحتجاجات في حمص. وفي تاريخ 30 حزيران 2011 أطلقت تنسيقيات الثورة "بركان حلب" لتوسيع حجم الُمظاهرات في المدينة، ونجح هذا التحرك بخروج مظاهرات في أكثر من عشر مناطق ومحاولة الثوار القيام باعتصام في ساحة سعد الله الجابري الشهيرة في قلب المدينة.
طبـــــقة التجـــــــــار من عوائق الثورة في حلب
تأخرت حلب في اللحاق بركب الثورة، إذ كانت صلة تجارها وأثريائها مع النظام قوية إلى حد كبير عبر شبكة من المصالح التجارية والمالية. وتورط رموز كلاسيكيون من تجار حلب في تنظيم ومنهجة عمليات وأد الاحتجاجات والحراك السلمي في الأحياء الحلبية في مهدها، ومنعها من التقدم والتضخم ككرة الثلج كما جرى في حمص، التي شارك كبار تجارها في دعم الاحتجاجات بشكل علني وقوي ومؤثر جداً، شكل حاضنة تجارية ومالية وإغاثية لكل الأحياء الثائرة، كما قاموا بالمشاركة في تنظيم الاحتجاجات وتقديمها بحلة سلمية حضارية في رسائل موجهة عبر اللافتات إلى العالم والمجتمع الدولي، وشهد (اعتصام الساعة) أرقى أشكال هذا الاحتجاج.
وارتبطت مصالح تجار حلب بشكل كبير بمصالح الاقتصاد السوري في عهد النظام، وسخّر هؤلاء التجار إمكانياتهم لترويض أي حراك جمعي من الطبقة الوسطى والفقيرة في حلب من العمال والموظفين التابعين لهم كي لا يقوموا بأي نشاط معارض ضد النظام. وأصبحت كثير من العائلات والعشائر الحلبية الكبرى تقدم أبناءها للمشاركة في قمع المظاهرات. واشتهر اسم آل بري في قمع ثوار حلب، وقاموا بالقتل والتنكيل بتوكيل مباشر وعلني من النظام.
اختلاف في أداء المـــــــشايخ والوسط الديني
برز دور مشايخ حمص بسرعة في دعم الحراك الشعبي وتصدر أجزاء من مشهده، فترددت أسماء كلٍ من الشيخ أنس سويد والشيخ محمود الدالاتي والشيخ سهيل جنيد كداعمين للثورة في مواقفهم المعلنة ولقاءاتهم مع رموز السلطة ـ آنذاك ـ وفي تنظيمهم لشبكات خيرية أهلية تقوم بمساعدة المتضررين وطلائع النازحين من الأحياء التي بدأت تتعرض للقمع المفرط. مما عزز من طابع الثورة الحمصية بوصفها ثورة مجتمع
ضد سلطة جائرة، ومنح الحراك مشروعية دينية مؤثرة أدت إلى سهولة اتساعه في مختلف الأوساط التي سبقت الإشارة إليها. أما في حلب المدينة فقد توزع المشايخ على مواقف ثلاثة؛ فقلة قليلة منهم أيدت الثورة وشاركت في بعض نشاطاتها، فتعرضت للقمع أو الاعتقال أو اضطرت إلى مغادرة البلاد. بينما أفرطت فئة قليلة أخرى في تأييد النظام، نتيجة ارتباط ولائها ووظائفها بمفتي الجمهورية الرسمي أحمد حسون. أما الكتلة الكبرى من المشايخ والأوساط المتدينة الواسعة في حلب فقد ظلت تنأى بنفسها عن اتخاذ موقف، ونظرت إلى ما يجري بوصفه "فتنة" مقلقة، رغم معرفتها الأكيدة بمدى الجور الذي مارسه نظام الأسدين لعقود طويلة. هذا الجور الذي لم يعد هناك أفق واضح لإمكانية التعايش معه، حتى بالنسبة إلى هؤلاء، بعدما انتقل الحراك الحلبي إلى العمل المسلح، ورد عليه النظام بقصف الأحياء المأهولة التي خرجت عن سيطرته.
التسليح ونقطة التحول في حمص
بالرغم من امتناع ثوار حمص عن التسليح في الأشهر الأولى من عمر الثورة، إلا أن هذا الامتناع كان ناجماً عن تنظيم محكم من قبل المثقفين والنخب وطبقة التجار في المدينة لسد الطريق على تلفيقات وأكاذيب النظام وإعلامه الذي اتهم الحراك بأنه تمرد مسلح تقوم به عصابات لديها أجندات خارجية. إلا أن الوحشية التي اتبعتها عناصر الأمن، مع دخول الجيش لدعم القمع، أدت إلى قيام الأهالي بطلب الحماية من المجتمع الدولي الذي تعامى عن كل ما يجري من جرائم، فقامت بعض الأحياء بتحصين نفسها لردع قوات الأمن والجيش من اقتحام الأحياء وقتل المتظاهرين، وشكل هذا عاملاً حاسماً في الثورة طيلة أشهر، وحفز بعض المدن الثائرة الأخرى على توسيع حجم التظاهر وحماية نفسها بالطريقة ذاتها.
في السنة الأولى من عمر الثورة، لم تكن أحياء حلب الثائرة قد فكرت بالتسلح لحماية المتظاهرين من وحشية النظام، لأن حجم الاحتجاجات كان ضئيلاً قياساً على حجم المدينة الكبير وتقاعس كثير من الأحياء عن الخروج في الشوراع، حتى اعتقد الشعب السوري أن في حلب ثورة ريف خارج المدينة وثورة طلابية داخلها فحسب، وأنها ستبقى عصية على دخول ركب الثورة بشكل كامل كما حدث في حمص.
الجيش الحر: حاضن في حمص ومفاجئ في حلب
بعد إعلان تأسيس الجيش الحر في تموز 2011 دخل عنصر التسليح في حمص، وبدأت تظهر عبر وسائل الإعلام كتائب وتشكيلات عسكرية من المنشقين عن جيش الأسد وهم يتجولون في شوارع المدينة وأحيائها الثائرة، وكانوا يشكلون رادعاً قوياً للنظام بعدم التعرض للمظاهرات السلمية. وظهرت كتيبة/ كتائب الفاروق في حي بابا عمرو الذي شكل حاضناً شعبياً لها. وقد اكتسبت هذه القوات العسكرية الثائرة مشروعيتها القانونية من كونها قوات دفاعية للمعارضة لصد اعتداءات الشبيحة وقوات الأمن وجيش للنظام، ومن دعم دول عربية وتأييد غير معلن من دول أوروبية والولايات المتحدة. وكانت هذه القوات تقوم بالتفاوض مع اللجان الأممية التي تزور المدينة. ويختلف دور الجيش الحر في حلب عنه في حمص، من حيث تأخر وجوده، ومدى قبول الأحياء الحلبية لتشكيل حاضنة شعبية له، باستثناء بعض الأحياء الثائرة. ومنذ أن بدأ الثوار المسلحون في تموز 2012 بدخول حلب قادمين من البلدات والقرى المحيطة،
وأعلن لواء التوحيد بدء معركة تحرير حلب، فرض الثوار سيطرتهم على أحياء صلاح الدين وسيف الدولة وبستان القصر والكلاسة والسكري والصاخور ومساكن هنانو. وما زال النظام يسيطر الآن على أحياء (الحمدانية، حلب الجديدة، الفرقان، جمعية الزهراء، شارع النيل، السبيل، العزيزية، السليمانية، محطة بغداد)،
وعلى 20 % من حي صلاح الدين و30 % من العامرية، و40 % من الجابرية و60 % من الميدان، وفق ناشطين.
تشابه في النزوح وحجم الدمار في هذا الوقت، يتشابه حجم الدمار الذي ألحقته قوات النظام بكل من مدينتي حمص وحلب، إلا أن الحملة العسكرية ضد مدينة حمص وأحيائها سبقت الحملة على حلب. وقد دمر القصف المدفعي والجوي أحياء في حمص بالكامل، كالمدينة القديمة وبابا عمرو والخالدية، وباقي الأحياء مدمر بنسبة 50 بالمئة كحي باب السباع. وفي حلب دمر القصف أحياء حلب القديمة وسوقها الأثري. وسبق هذا الدمار نزوح الأهالي من حمص إلى مدن حماة وطرطوس واللاذقية ودمشق، ولجوء عشرات الآلاف إلى لبنان، وأصبحت أحياء المدينة الثائرة غير مأهولة إلا من الثوار وكتائب الجيش الحر، وعدد قليل جداً من العائلات التي لم تستطع النزوح. ولجأ معظم الحلبيين المهاجرين إلى تركيا، في حين نزح جزء من المؤيديين والناقمين على الجيش الحر إلى اللاذقية، وبإشراف من حكومة النظام التي جعلت من المدينة الرياضية ملاذاً آمناً لهم. ويعتبر حي الوعر (حمص الجديدة) معقلاً لـ 400 ألف نازح من أحياء حمص القديمة، وتتشابه الحالة في أحياء حلب التي ما زالت تحت سيطرة النظام، التي تؤوي أكثر من نصف مليون نازح هربوا من القصف الذي شمل أحياءهم في مدينة حلب. والفرق بين النزوحين أن نزوح أهل حمص كان بشكل بطيء وتدريجي منذ بداية الحراك في آذار عام 2011، نظراً للحملات العسكرية المتواترة وهرباً من القصف المدفعي والجوي لقوات النظام، بينما تأخر نزوح الحلبيين إلى ما بعد أكثر من عام من عمر الثورة، بعد دخول الجيش الحر المفاجئ والشامل لتحرير أحيائها من سيطرة ميليشيات النظام.