عدسة رزق | خاص عين المدينة
إنه نادر، النازح إلى مخيم أطمة، والمدرس السابق الذي لا يكف عن كتابة القصائد وقضاء معظم النهار في صحبة القلم والأوراق، وإنشاء أبيات شعر وجدانية تتحدى المعاناة والقهر والموت، وتستلهم معاني العزة والبطولة والكرامة.
ومن داخل خيمة النزوح التي سكنها هذا الشيخ الذي تجاوز الخامسة والستين، يُسمع نادر يتلو قصائده بصوت حيوي ولغة عربية فصحى سليمة، صوت شجاع وصامد كما صمد صاحبه في قريته الأصلية كفرنبودة تحت القصف الهستيري والبراميل الهمجية.
يتحدث شاعر أطمة عن قصته في النزوح: ازدادت حدة القصف على كفرنبودة. وغادر القرية الكثير من الناس. وصممت أنا على البقاء مع المقاتلين هناك. ويوماً بعد يوم، وتحت القصف، اشتد إلحاح زوجتي وبناتي على الرحيل. وهذا ما حصل أخيراً، حين غادرن إلى قرية مجاورة،
لأضطر إلى اللحاق بهن. أقمنا هناك مدة شهرين حتى لاحقتنا القذائف وغارات الطيران من جديد. وعندما احترت في أمري، وفكرت إلى أين أذهب؟ وأي أرض تتسع لنا؟ سلمت أمري لله. وقادتني الأقدار إلى هنا، إلى أطمة. يؤمن نادر أن طريق التحرر صعب وشاق. ويعتبر الحرية بضاعة غالية ذات ثمن باهظ. ويرى ثورة السوريين قدراً مكتوباً عليهم فيه أن يجابهوا الموت لنيل كرامتهم:
كتب الزمان عليك يا وطني الكرامة بالدماء/ وقضى بأن بنيك تقتحم الردى تُجب النداء
يقول نادر إنه صاحب رسالة عليه أن يؤديها من خلال الشعر، فهو لا يكتب لمجرد الكتابة، إنما خدمة لأهداف أعلى. ولا يهتم بوضع أسماء لجميع قصائده. فكيف يهتم بهذا وهو نفسه ـ كما يقول ـ قد فقد اسمه وهويته كإنسان؟ وذات يوم، عندما تنتصر الثورة، ويعود إلى قريته وداره، سيعود إلى هذه القصائد ويميزها بأسماء. نادر أب لعائلة كبيرة من عشرة أبناء وبنات، وجدٌ لعدد من الأحفاد. استشهد ابنه الأكبر في دمشق على يد رجال المخابرات، وتشردت أسرته، وضاع اثنان من أبنائه الصغار في دمشق. ولا يعرف جدهما الشاعر أي شيء عنهما.
يعلق نادر على مقطع الفيديو الذي انتشر على اليوتيوب، وكان سبباً لشهرته، ويظهر فيه باكياً وهو يلقي الشعر: كنت ألقي قصيدة عنوانها "رسالة الروح"، ووجدت نفسي باكياً من دون انتباه مني. وكذلك بكى من كان يسمعني تأثراً. وفي عودة إلى الماضي يذكر نادر أنه، ومنذ خمس وثلاثين سنة، كان يقاوم هذا النظام، بالرغم من كونه مدرساً في مدارس الدولة. فقد كان يحاول من موقعه في سلك التعليم أن يقف في وجه الخراب والإفساد، ولكنه لم يجد آنذاك كثيراً من الآذان التي تصغي إلى تحذيراته، فأجواء الرعب التي سادت طوال تلك العقود كانت تمنع الناس من الاستجابة أو الاهتمام بما يقول. وحتى زوجته كانت تنبهه أن للحيطان آذاناً تصغي وتودي إلى ظلامات السجون. والآن، وبعد كل ما جرى، وجد نادر من يصغي إليه. ووجد بين الخيام وفي ساحات المخيم مواقف يتلو فيها قصائده. ففي كل ثلاثاء يقيم نادر أمسية شعرية في مدرسة الثورة في المخيم. لا يستطيع من يزور مدرّس التربية الإسلامية السابق أن يسمع كثيراً من الكلام العادي من هذا الشاعر الذي يسابق الوقت ويستثمر كل ساعة من النهار للكتابة وإنشاد قصائد الشعر العمودي التي طالما حرم لسنوات طويلة من إلقائها على الملأ. وغريب فعلاً، من حيث المبدأ، أن لا يكون المرء حراً في ما يقول إلا بعد أن يدمر مسكنه ويلجأ إلى خيمة. يعتب نادر على الثورة لأنها تأخرت كثيراً. وبتأخرها فوتت عليه فرصة ان يكون ثائراً شاباً. ويتمنى لو كان أصغر سناً ليستطيع أن يحمل بندقيته ويكون مع الثوار، الذين يوقن كلما رآهم أن الثورة منتصرة حتماً على الطغيان، والنصر قادم مهما تأخر. والموعد الصبح، أليس الصبح بقريب؟