- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
سوسيولوجيا المقاهي في دير الزور
ما تزال "القهوة" (المقهى) في مدينة دير الزور إرثاً يرافق أبناءها، ويعبر عن هويتهم، وفي أحيان أخرى يدلل على حضورهم الطاغي، ولا يمكن بحال من الأحوال فصل تاريخ المدينة عن تاريخ مقاهيها. فكما الأحداث وتراكمها ترسم سيرورتها التاريخية، كذلك مواقع مقاهيها وعمرها تعبر عن تراتبية قدم الإحياء فيها.
ويصعب في دير الزور تمييز فوارق طبقية بين مرتادي مقاهيها، كما هو الحال في جميع المظاهر الديرية، وفي جميع المناسبات: في العرس وفي العزاء، وفي الزي وحالات الفقر والغنى، فغالبيتهم منصهرون ببيئة اجتماعية واحدة تمنع الصلات القرابية المتشابكة ظهور تباينات في مظاهرها، وقد تحيل في بعض الأحيان الرغبة في الانسلاخ المظهري إلى نوع من الشذوذ. وهي كذلك في المقاهي؛ لا توجد مقهى ذات طابع طبقي ملحوظ، إنما تتداخل عوامل أخرى في انتقائية المقهى، كالطابع المناطقي والثقافي ونوعية المهن، وطبيعة الإشكاليات المتداولة في مقهى دون غيرها، ومع ذلك تطغى المزاجية الشخصية الديرية على جميع هذه العوامل.
ويتحكم في مزاجية المرتاد عوامل جاذبة للشخصية داخل المقهى ذاتها، وهي تؤثر إلى الدرجة التي يصعب فيها تغيير المقهى، ويشبه الانتقال من مقهى إلى أخرى في الدير الانتقال من منزل إلى آخر، فهي بيت ثانٍ لغالبية الرجال، ومحور الخلافات العائلية الساعية لإطفاء غيرة البيت الأول.
ويسقط ذلك حتى على الطاولة في المكان ذاته، وعلى علبة ورق اللعب "دستة البباز" في أحايين قليلة، والتي يكتب عليها اسم أحد الأعضاء.تركيبة العوامل هذه تجعل التغيير في المزاجية ثقيلاً، وإن حصل فعلى الشخصية أن تمر بمرحلة انتقالية سيكولوجية تعاني من التقلبات حتى تستقر، وقد يكون استقرارها الجديد أفضل بمراحل من القديم.
ويميل البعض إلى ارتياد نوعين من المقاهي يتنقلون فيهما بين فصلي الصيف والشتاء، بين الحر والبرد اللذين لا ثالث لهما في المدينة، فيقصدون في الصيف المقاهي القريبة من النهر "الجراديق" ومفردها "جرداق" من الأصل تركي “çardak”، والذي يتفق مع معنى "سيباط" في الدير (العريشة على شط الفرات) أكثر من دلالته على المقهى النهرية. وفي الشتاء هم يتجهون إلى مقاهي الداخل الأكثر دفئاً.
ولا يغيب عن خشبة المقاهي بطلها الظريف "الساقي" (النادل)، والذي يستحق أن يتخصص له باب في التراث الديري، فهو الجزء المهم في سلسلة العوامل المؤثرة في المزاجية، وهو قفل الحلقة التي قد يغيب اسم المقهى الأساسي لصالحها.
على الساقي أن يحفظ الزبائن وأمزجتهم وما يحبون ويكرهون، إلى الدرجة التي ينصاع بها الزبون لرغبة الساقي وليس العكس، فمقدار نجاحه يتعلق بمدى سيطرته على أمزجة الآخرين وتغييرها إن أمكن. فالساقي تفرض عليه المهنة أن يكون سياسياً أكثر من السياسيين ذاتهم، وهذا شرط استمراريته في الميدان، وقد يُطلق عليه أسماء أخرى يستسيغها مرتادو المقاهي أكثر من الاسم الحقيقي.
وللبوراكو فصل آخر في حكاية مقاهي الدير، فهذه اللعبة التي يلعبها أبناء دير الزور دون سواهم، لا تقل في أهميتها عن المقهى ذاتها، فلها طقوس معينة ومصطلحات خاصة، وجمهورها الذي يفوق عدد المتبارزين في معظم الحالات.
ويبدأ تحضير المباراة عندما يطلب أحد أعضاء الطاولة من الساقي أن يحضر له علبتين من ورق اللعب بقوله "هات ورقين"، وقد يجلبها الساقي بدون طلب بمجرد أن يشاهد الفريق الرباعي اكتمل بعد جلوس "الراكب الرابع"؛ ولا تكتمل طقوس المباراة إلا بحضور الجمهور، واحتدام النقاش بين اللاعبين الشركاء والمنافسين، وتدخل الجمهور وتحكيمه، وتداول عبارات ومصطلحات خاصة بالبوراكو من قبيل "كوشت نفسنا من كثر ما قلنالك كوش"، " صرت عَبّارة من كثر ما عبرت ورق"، "يا معيبر"، "سحبتوك" (للدلالة على سحب جوكر) وغيرها من العبارات التي تخضع دوماً للتحديث والابتكار، بما يضفي جواً مرحاً ومجالاً يتنافس فيه الديريون لإظهار براعتهم الفكاهية، وإن كان ذلك على حساب خسارتهم في "البوراكو"
وفي الدير يقال "بين القهوة والقهوة قهوة" للإشارة على عدد مقاهيها الكبير وازدحامها، ما يجعل منها أفضل الاستثمارات وأسهلها وفق الرأي السائد "شريك المي ما يخسر"، فهي ليست بحاجة إلا لصالة واسعة نسبياً، وقليل من المهارة في اجتذاب الزبائن.
ففي حي "الجبيلة"، الحي الذي نشأتُ فيه، تحدد المرويات تواريخ افتتاح المقاهي في الشارع الطويل الذي تحول إلى سوق أخذ اسم الحي، وتركزت مقاهيه في طرفه القريب من مركز المدينة. فكان أحد أبناء عائلة الصياح -وفق المرويات- أول من افتتح مقهى في الحي، قبل أن يشتريها شخص آخر لتعرف ب"قهوة ابن مزعل"، تلاها مقهى لفرد من ذات العائلة الأولى عُرفتْ فيما بعد بـ"قهوة السراوي"، وجاورتهما "قهوة حمادي الدوارة"، وتلتها "قهوة ابن ستيتة"، وغالبية رواد هذه المقاهي هم من سكان الحي ومن كبار السن.
لاحقاً افتتحت مقهى "الهال" نسبة إلى سوق الهال (سوق الخضار) الذي أنشئ في سبعينات القرن الماضي إلى جانب بعض المباني الحكومية في توسع عمراني ضمن المقابر القديمة التي نقلت إلى موقع آخر.
على زاوية سوق الهال قبالة الشارع الذي يفصل "الجبيلة" عن حي "أبو عابد" حيث يقيم جزء من محيطي القرابي، بنيت مقهى "الهال"، وهو الاسم المرتبط بها حتى بعد تغيير اسمها وصاحبها. وبحكم موقعها كان معظم زبائن هذه المقهى من سائقي الشاحنات التي تنقل الخضار إلى السوق، وتجاره والعاملين فيه وبعض الموظفين الحكوميين الذين لا يطيقون المكوث طويلاً في مكاتبهم، إضافة إلى بعض زبائنها الليليين وقبل انشغالهم بعمل عرضي في المساء، يمنعهم عن "النزول" اليومي المعتاد إلى "القهوة.
وفي المساء، وهو وقت الذروة بالنسبة لعموم المقاهي، كان يقصد مقهى سوق الهال عدد من أبناء حيي الجبيلة وأبو عابد، وهذا تحديداً قبل إنشاء مقهيين متجاورين في "دوار التموين" التابع لحي أبو عابد، والذي يتوسط سوقين مركزيين مهمين بالإضافة إلى سوق الجبيلة، هما "ستة إلا ربع" و"سينما فؤاد"، حيث استقطبت هاتان المقهيان فئة الشباب أكثر من المسنين المقاومين لتغيير العناصر التي ألفوها وأصبحت جزءاً من أمزجتهم.
ثم أن الشباب وحتى وقت قريب، ابتعدوا عن المقاهي التي تجمعهم بكبار السن من ذات العائلة كنوع من التقدير، وقصدوا المقاهي الأحدث التي قد يتجنبها المسنون منعاً لأي حرج. وهذا ينطبق تماماً على بعض المقاهي التي يرتادها الطلبة الهاربون من المدارس مثل "قهوة دلو" مقابل المتحف الجديد.
وبين رواد "الهال" المسائيين بعض أقربائي من حيي الجبيلة وأبو عابد؛ كان أكثرهم يعمل في مجال المقاولات الإنشائية، وبحكم موقعه القريب من منازل بعض العائلات التي عملت في مجال المقاولات، يتحول مقهى الهال إلى ناد غير رسمي للمقاولين ومعهم سائقو القلّابات والمعدات الثقيلة، وتطغى على أحاديث الطاولات قضايا المهنة المشتركة ويوميات الأعمال التي تمتد أحياناً إلى فقرة البوراكو.
أكثر ما يذكرني بهذه المقهى هو ساقيها "بكّاس" الذي عرفته في أول مرة رافقت فيها والدي إلى مقهاه أواخر الثمانينات. طوال عقدين أو أكثر شكل بكّاس رمزاً وقائداً فعلياً لها، ومركز جذب للزبائن وكذلك عقبة في عملية التغيير، ما جعل "الهال" تحافظ على هويتها لوقت طويل.
يبدو الديريون الأكثر إصراراً على نقل بيئتهم أينما حلوا، و"القهوة" إحدى خصائصها البارزة، ففي المدن السورية الأخرى يرتاد الديري المسافر أو المقيم مقهى واحدة في الغالب، يجتمع فيها مع آخرين من أبناء مدينته، ويطلقون عليها "قهوة الديرية" كاسمٍ متعارف عليه محلياً متناسين اسمها الأصلي.
ففي دمشق كانت "قهوة الديرية" في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ضمن بناء يقابل البرلمان السوري في حي الصالحية، ومع إغلاقها وعبور جيل ديري آخر في بداية التسعينيات، انتقلت التسمية مع روادها إلى مقهى الروضة الشهير، قبل أن تتحول مع جيل لاحق إلى مقهى الكمال في شارع المتنبي، في حين قصد بعضهم مقهى الحجاز قرب محطة القطار التاريخية.
وبينما كانت "قهوة الديرية" في دمشق مجازاً غير دقيق بتجاهله المكونات الأخرى من رواد مقاهيهم هناك فضلاً عن أسمائها الشهيرة، كانت مقاهيهم في مدينة أورفا التركية التي شكلت مقصد لجوئهم الأول- ديرية خالصة، زبائن وسقاة ومستثمرين. ففي ساحة المدفع، وداخل خان كان شبه مهجور حتى العام 2013 تلاصقت ثلاث مقاه، وعلى سطح الخان افتتحت مؤخراً مقهى رابعة، استنسخت جميعها طقس وروح مقاهيهم الأصلية.
فـ"القهوة" بالنسبة إلى أبناء مدينة دير الزور ليست مجرد مكان تسلية، بل جزءاً من الوعي والهوية يصرون على التمسك به في رحلة لجوئهم الطويلة، كتمسكهم بأي مظهر أو سلوك يعبّر عنهم، ويحفظ ذواتهم من التداعي والاضمحلال.