من أكثر الصور التي ستعلق طويلاً في أذهان الناس، ممن عاشوا تفاصيل الثورة السورية، صورة رغيف الخبز الذي تساقطت عليه قطراتٌ من دم حامله أمام أحد الأفران التي تصادف وجوده عندها لحظة قرّر طيارٌ مضطربٌ إلقاء حمولته فوق الفرن.
للحديث عن هذه الأزمة الخانقة التي عانت منها الميادين التقينا بالسيد محمود الناصر، أحد العاملين في مجال الإغاثة، فأفادنا بالقول: أزمة الخبز أزمةٌ لم تكن سوريا تعيشها قبل الثورة، لأن سياسة النظام السابق كانت تقوم على حرمان الناس من كثيرٍ من مقوّمات الحياة دون تجويعهم، لأنهم لم يعرفوا من الثورات إلا ثورات الجياع. لكن المعاناة مع رغيف الخبز بدأت بشكلٍ جليٍّ بعد الثورة، حين أصبح سلاح الخبز من الأسلحة الفتاكة بيد النظام وأحياناً بيد بعض فصائل المعارضة. تمّ الحديث عن الكثير من أوجه هذه المشكلة في منطقة الميادين، إلا أن كثرة الحديث حول أمرٍ لا تنبئ دائماً بالتوصل إلى حلٍّ ملائمٍ له. فلا تزال الميادين تعاني من نقصٍ حادٍّ في مادة الخبز، وإن توفر فهو يتوفر بصعوبة وبشروطٍ غايةٍ في السوء. فإن تجد في اللقمة التي تمضغها قطعةً من الزجاج ليس لك أن تعترض لأنها لن تحدث إلا أثراً ضئيلاً ليس جديراً بالذكر، وإن وجدتَ فيها بقايا حشراتٍ صغيرةٍ كقمل الطحين مثلاً فهو أيضاً أمرٌ لا يعتدّ به. أما عن الأسباب التي أدّت إلى استفحال هذه الأزمة فكانت بشكلٍ أساسيٍّ منع النظام مطاحن الحبوب من بيع مادة الطحين في المناطق المحرّرة، مما أدّى إلى تعطيل العديد من الأفران وتوقفها عن العمل.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأزمة تركت آثاراً سلبيةً على علاقة النازحين إلى مدينة الميادين بالمقيمين فيها من أهلها. وعن ذلك حدثتنا السيدة أم عبد الله، المقيمة في حيّ "المحاريم"، والتي حاولت إيصال عريضة احتجاجٍ موقعةٍ من أهالي الحيّ إلى "عين المدينة" لنشرها: كثيرةٌ هي الأسماء والصفات التي رافقت دير الزور كمحافظة، إلا أن أكثرها ملائمةً لواقع المدينة هو وصفها بـ"أرض الخير". وفي الوقت نفسه يناقض هذا الوصف حالها تماماً، إذ تتمحور هموم العديد من الناس فيها حول رغيف الخبز، وبصورةٍ خاصةٍ من المقيمين. حين بدأ النزوح كان من واجبنا احتواء أهلنا النازحين الذين تشاركوا معنا ظروف المدينة الصعبة، من زحمة سيرٍ وضعفٍ في الخدمات وغلاءٍ في أسعار المواد الأساسية والسكن. إلا أن أزمة الخبز سبّبت لنا مشكلةً كبيرة، ووضعت سدّاً بيننا وبينهم. ففي الوقت الذي نجوع فيه نحن وهم تجد جميع المنظمات والجمعيات العاملة على الأرض تسعى إلى خدمة هؤلاء وتأمين مادة الخبز لهم. وإن ذهب أحدنا إلى إحدى تلك الجمعيات يتم التعامل معه على أنه متسوّلٌ أو شخصٌ يريد الاعتداء على حقّ غيره، ويريد حصته - وهو "المقيم" - من خبز النازحين. هذا الحال يؤرّقنا جميعاً، ففي الوقت الذي قد نقضي فيه أياماً بدون خبرٍ يحصل النازح على هذه المادة بشكلٍ يوميٍّ وبكل بساطةٍ من الجمعيات التي ترعى شؤونه. نحن ندرك أن أوضاع هؤلاء صعبةٌ عموماً، وأنهم مشرّدون بعيداً عن بيوتهم وأهاليهم، ولكن هذا يجب أن لا ينطبق على مادة الخبز، فكما أن لهم أطفالاً يجوعون فإن لنا كذلك أطفالاً يجوعون. وهذه الشكوى نوجهها من خلال مجلتكم إلى كل المعنيين بتسيير شؤون المدينة.
وحول آفاق الحلّ التي يمكن أن توجد لهذه الأزمة التقينا السيد محمد عارف حسّاني، أحد العاملين في مجال الإغاثة في مدينة الميادين، الذي قال: إن أزمة الخبز من أكثر الأزمات التي ينبغي الإسراع في معالجتها من قبل كل من يمتلك سلطةً تؤهله لذلك. وبالفعل تعمل فصائل المعارضة الآن على تشغيل المطاحن التي تسيطر عليها بحيث يتمّ توفير مادة الطحين لجميع الأفران العاملة في الميادين.