مديرة مدرسة: "لا تجون إلا نعطيكم خبر"
حين كان أبو المنذر المصريّ -وهو أوّل أميرٍ لديوان التعليم في مدينة دير الزور- على وشك الاقتناع بأن العملية التربوية القائمة في المدينة لا تمسّ الثوابت الدينية، صعد مدرّس لغةٍ عربيةٍ من أبناء المدينة إلى منبر جامع حرويل، حيث عقدت داعش اجتماعها بالجهاز التعليميّ "الحرّ" والناشئ آنذاك، ليقول: "الشيخ يتكلم في وادٍ وأنتم تفهمون في وادٍ آخر. هذه المناهج زُبالة، وعلينا أسلمتها قبل افتتاح المدارس"، وأيّده في ذلك معلم رياضةٍ غاضبٌ من "المناهج الكافرة". ولم يجد المصريّ، أمام تفوّق معلمين من أبناء المدينة عليه في التكفير، بدّاً من أن يتراجع ويقرّ هو الآخر بفساد وكفر هذه المناهج.
كان هذا الاجتماع محطّةً كارثية، لأنه أجهز على العملية التعليمية برمّتها، وهدم ما قام المكتب التربويّ التابع للمجلس المحليّ ببنائه خلال أكثر من عام، إذ نجح هذا المكتب في استعادة ثقة الأهالي والمعلمين والطلاب بالمدرسة في ظروف الحرب التي تعيشها دير الزور.
مثل كلّ مسؤولي داعش، كان أمير التعليم المصريّ مضطرباً ولا يعرف ماذا يريد بالضبط، كما ظهر في الاجتماع المذكور الذي حضره أكثر من 50 مدرّساً وناشطاً في قضية التعليم، كانوا قادرين على الوصول إلى تسويةٍ مع داعش تبقي المدارس مفتوحةً عدّة أشهرٍ أخرى لتعليم الأطفال القراءة والكتابة والحساب على الأقلّ، ما دفع المصريّ إلى التساؤل: "وما المطلوب منا؟"، قبل أن يتراجع بتأثير المعلمين المزاودين عليه في التكفير.
ولكن في مراكز القرار الحقيقية في داعش كان هناك من يخطط بخبث، فجاءت القرارات تباعاً، كاستتابة المدرّسين الراغبين في التدريس وإخضاعهم لدورة "تصحيح عقيدة"، أُخضعوا بعدها لامتحانٍ تحريريٍّ، يدخل الناجحون منهم فيه فحص مقابلةٍ سؤاله الأهم: "هل تبايع أمير المؤمنين إذا طُلب منك ذلك؟"، ويُحدَّد المقبولون على أساس الإجابة عن هذا السؤال.
يقول معلمٌ خضع لاستتابات داعش تلك: "أحسسنا بمهانةٍ وكأننا عبيد. لا قيمة لعلمٍ عندهم ولا لكبيرٍ ولا لصغير. تصوّر أنهم أجبروا مدرّساً قديراً كهلاً على الاستتابة مرّتين؛ الأولى لأنه كان مدرّساً عند "النصيرية"، والثانية لأنه كان سجيناً عند النظام لمدة 13 عاماً بتهمة الإخوان!".
لاحقاً، خلال العام الدراسيّ المفترض، تلاحق على رئاسة الجهاز التعليميّ لداعش أشخاصٌ عدّة، كان آخرهم أبو الفضل، وهو طالبٌ جامعيٌّ شابٌّ من أبناء المدينة، انصبّ اهتمامه الرئيسيّ على تنفيذ أوامر الأمنيين والتقرّب منهم. وخلال العام ذاته افتتحت داعش مدارس ابتدائيةً هي أقرب إلى المدارس الدينية منها إلى المدارس بمفهومها المعروف. ودوماً كانت مبرّرات أنصار التنظيم لغياب مواد درسيةٍ رئيسيةٍ أن الكتب قيد الطباعة وستصدر في وقتٍ قريب.
يقول أحد أطفال هذه المدارس: "ما يعطونا غير عربي وديانة.. وبي استاد انطانا شوي حساب بس قال لا تعلمون حدا".
وبقراراتٍ وإجراءاتٍ مرتجلةٍ أخرى انهار التعليم في مدينة دير الزور. ليأتي القرار الأكثر جنوناً والمعنون بـ"بيان وتعميم رقم 09"، الذي جمع كلّ ما سبق في سياقٍ واحدٍ وفق منهجيةٍ تقوم على نسف كلّ العملية التدريسية قبل سيطرة التنظيم، واعتبار كلّ ما يتعلق بها كفراً وردّةً، من المناهج إلى المدرّسين. ثم ما لبث التنظيم أن أصدر، بعد قرابة شهرين، قراراً آخر يقضي باستتابة جميع المدرّسين والمدرّسات، و"من لم يحضر للاستتابة يعتبر مرتدّاً مصرّاً على ردته"، وفق القرار.
مع بداية العام الدراسيّ الجديد 2015-2016 ماطل التنظيم بافتتاح المدارس حتى بداية الشهر العاشر، لكن شيئاً لم يتغير، فقد قام بافتتاح أربع مدارس ابتدائيةٍ فقط، ونقل مقرّاتها من البيوت والأبنية الصغيرة إلى أبنية المدارس الحكومية السابقة، وفرض مبلغ 10 دولار رسم تسجيلٍ على كلّ طفلٍ، قبل أن يتراجع عن هذا الإجراء. ولم يبدأ التدريس الفعليّ حتى اليوم في مدارس داعش المفتتحة في المدينة، لعدم وجود معلمين ومعلماتٍ، أو لندرتهم في سلك داعش التعليميّ داخل المدينة. وإلى جانب غياب المعلمين تغيب الكتب أيضاً، وتستمرّ داعش بإطلاق الوعود ونشر صور أغلفة الكتب "المطبوعة في الموصل" وفق زعمها، لبثّ الأمل بأن هناك تعليمٌ قادم.
تقول الطفلة نور من حيّ الحميدية: "كل يوم نروح عالمدرسة، نظلّ ساعتين قدّام الباب وما تجي المديرة، ونرجع". نور في الصفّ الخامس الابتدائيّ، وهي السنة الأخيرة لتعليم الإناث في نظام داعش. وتلخّص نصيحة المديرة لهذه الطفلة حال المدارس في ظلّ داعش: "اليوم إجت المديرة قالتلنا لعد تجون إلا نعطيكم خبر".