- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
خمسة أيام على أبواب دائرة النفوس
لم تُفلح كل المحاولات في ثني أم محمد المرأة السبعينية عن التوجه إلى مدينة حماه لاستخراج بيان قيد عائلي لمعرفة مصير ولديها المعتقلين في سجون الأسد منذ عام 2014، بعد أن انتشرت في الآونة الأخيرة أخباراً تفيد بأن الأخير قد أفرج عن أسماء بعض المعتقلين الذين قضوا في سجونه، وحوّلها إلى دوائر السجل المدني. ولأن محافظة إدلب كانت قد حررت منذ 2015، فقد نقل نظام الأسد جميع المؤسسات الحكومية التابعة لإدلب إلى حماه.
حاولت أم محمد البحث عن أسماء ولديها بين الأسماء التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر الروابط التي نشرتها بعض المواقع الإلكترونية، دون جدوى؛ خاصة أن أحاديث كثيرة متداولة هاجمت تلك المواقع، واتّهمتها بنشر أسماء مغلوطة أو كاذبة، أو أسماء كانت لأشخاص قضوا منذ زمن، وذهب البعض إلى الحديث عن وجود أسماء ما زالت على قيد الحياة!
حزمت المرأة أمتعتها القليلة لرحلة ظنت أنها لن تطول، قبّلت على عجل وجوه أحفادها، بكت وهي تستعير ما تبقى من قوتها لتطمئنهم، ثم اتجهت نحو الحافلة الوحيدة التي تخرج من قريتها في جبل الزاوية إلى مدينة حماه. 22 ساعة قضتها لتصل إلى المدينة.. اتجهت نحو دائرة السجل المدني، إلّا أن الحارس رفض إدخال أم محمد (ارجعي بكرى) دون أسباب ومقدمات.
أم محمد واحدة من 8000 عائلة، قيل إن حكومة الأسد قد أرسلت أسماء أبنائها إلى دوائر النفوس في المحافظات السورية؛ كانت حصة داريا وحدها (1000 معتقل)، إضافة إلى (750) معتقلاً قضوا في الحسكة، و(450) في حلب، و(300) في حمص، و(550) في إدلب، و(168) في معضمية الشام، في سعي من النظام إلى طمس جريمته والالتفاف على قضية المعتقلين (القضية الأبرز التي تواجهه اليوم في المؤتمرات الدولية) بنشر هذه القوائم، وإرسالها إلى دوائر النفوس، وتبليغ الأهالي سواءً عبر الهاتف أو من خلال استخراج البيانات العائلية لتوفية المعتقلين أصولاً، ولأسباب طبيعية (أزمة قلبية، ربو).
"شهادات الوفاة التي يستصدرها نظام الأسد غير قانونية، إذ لا تسلم أي أوراق ثبوتية أو شخصية للأهالي، وليس هناك تحديد لساعة الوفاة، وهي غير مرفقة بتقارير طبية حول أسباب الوفاة ومكانها"، يقول المحامي أحمد أبو غالب، فهذه الوثائق "جريمة جديدة تُضاف إلى جرائم الأسد، وإثباتاً على المعاملة الوحشية والإعدامات التي كانت تجري في سجونه، والتي أقرتها كثير من التقارير الصادرة عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان والأمم المتحدة، والمقابلات التي جرت مع ناجين من المعتقلات السورية".
أما أبو أسامة، ناشط مدني ومعتقل سابق من إدلب، فقال لعين المدينة: "هناك من يموت في المعتقل نتيجة أساليب التعذيب الوحشية، وبعضهم يموت من سوء التغذية والأمراض المعدية، كالسل والجرب نظراً لانعدام النظافة والغذاء والرعاية الصحية، ناهيك عن الإعدامات التي تتم يومياً في سجن صيدنايا سيء السمعة، وغيره من الأفرع الأمنية"، مؤكداً أن "هذا الأمر موثق لدى الكثير من الجمعيات والشبكات الإنسانية والحقوقية، وهناك الصور التي سربها القيصر لآلاف المعتقلين الذي قضوا، وقد ظهرت عليهم آثار التعذيب والجوع، والتقارير التي صدرت حول سجن صيدنايا وغيره من السجون". ويستغرب المعتقل السابق من وقوف هذه المنظمات مكتوفة الأيدي حيال ما يحدث، "ببساطة، يسلم الأسد ورقة لأهل المعتقل تثبت وفاته، هكذا يتم الأمر بدون محاسبة"، ويتهم هذه المؤسسات بالشراكة مع نظام الأسد في القتل، فهي من أطلق يده، على حد قوله، مستشهداً بالمثل الشعبي "قالولوا لفرعون مين فرعنك، قلهم ما حدا ردني".
أمام دائرة النفوس وفي اليوم التالي وجدت أم محمد نفسها في طابورٍ طويل، وبمعاملة سيئة وألفاظ نابية من قبل الشبيحة الذين يتمركزون أمام باب السجل المدني. "روحي ان شاء الله بيكون ابنك منهون"، قالها أحد الشبيحة لي وأنا أدخل إلى دائرة النفوس، تروي أم محمد، بعد تسليم الهوية والطلب إلى الموظف، طلب إليّ العودة في اليوم التالي، رجوته وتحدثت عن ظروفي وعن انعدام وجود مكان أبيت فيه، إلّا أنه نهرني وطلب مني العودة في اليوم التالي، وإلا فإنه سيمزق أوراق الطلب أمامي.
تكرر الأمر ليومين إضافيين، ولم أكن أعرف أن عليّ دفع رشوة للحصول على البيان العائلي، أحد الشبيحة في اليوم الخامس قال لي "أعطيني 50000 (قرابة 110دولاراً) بجبلك الورقة"، دفعت المبلغ وانتظرت حتى الساعة الثالثة، لتصلني الورقة دون ذكر لموت أحد أبنائي في المعتقل.
خمسة أيام قضتها المرأة وأكثر من 150 ألف ليرة (330 دولاراً) دفعتها كأجور للطريق والفنادق ورشى للشبيحة، لتحصل على ورقة "صك موت أو حياة" كما أسمتها.
حالها كحال أكثر من 200 ألف عائلة غيب مصير أبنائها في معتقلات الأسد دون معرفة مكانهم، "لا أعرف فعلاً إن كانوا أحياء، أو أن أسماء أخرى سيفرج عنها لاحقاً".