- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
حمامات السوق في إدلب.. أجواء دافئة للقادرين على الدخول إليها
حالة الهدوء النسبي التي تعيشها إدلب شجعت أصحاب حمامات السوق القديمة على إعادة ترميمها وافتتاحها من جديد، بعد أن أغلق بعضها أبوابه منذ أكثر من 25 عاماًً. لكن يبقى الدخول إليها غير متاح للجميع.
أثناء مرورك في أحد أزقة حي الجوهري بمدينة إدلب، ستسرقك الأنوار التي أضاءت زقاق الحي على غير العادة وأصوات الأناشيد الدينية والقدود الحلبية المنبعثة من "حمام الكرم" وتستدعيك للاستمتاع بالأجواء الدافئة داخله بعيداً عن برد كوانين.
مؤخراً أعيد ترميم وافتتاح الحمام بعد أن أغلق أبوابه منذ تسعينيات القرن الماضي بعد وفاة أحد المالكين الذين تعاقبوا عليه، ليكون واحداً من الحمامات الشعبية الثلاثة الموزعة ضمن أحياء المدينة.
اللوحة المعلقة على باب الحمام تشير إلى أن عمره اليوم ناهز المئة وأربعين عاماً وقد بناه هاشم المعلم سنة 1882 وحمل اسمه لسنين طويلة، ويخبرنا سكان الحي أنه كان أشهر حمّامات إدلب قبل أن تنال منه سنين الهجر.
يقودك باب الحمّام الضيق إلى زقاق قصير يفضي إلى ساحة في منتصفها بركة ماء مربعة تتوسطها نافورة، وتحيط بها المصاطب التي يستعملها الزبائن في سهراتهم من جهاتها الأربعة، تعلو كل مسطبة قنطرة قوسية تتصل مع القناطر الأخرى لتتقارب مع النمط العثماني في بناء الحمامات، ويعرف هذا المكان بين الزبائن ب"البراني" وهو القسم الذي يخلع به الزبائن ملابسهم ويتوشحون بالمناشف القطنية قبل البدء بممارسة طقوس الحمام، كما يعتبر هذا المكان مستراحاً للزبائن للاسترخاء بعد جلسة حمّام طويلة للاستمتاع بكأس الشاي ونفس النرجيلة ضمن سهرات تراثية تسرقك من برد الشتاء وصخب المدينة المزعج.
في الجهة المقابلة للزقاق الذي دخلت منه هناك زقاق آخر يقودك متعرجاً إلى باقي أقسام الحمام، ليصادفك أولاَ القسم "الوسطاني" والذي يعتبر استراحة مؤقتة للمستحمين حيث يخرج بعضهم لتنفس الهواء بعيداً عن بخار الحمام، كما يعتبر مكاناً للتخلص من مناشف الحمام المبللة واستبدالها بأخرى جافة قبل الخروج إلى البراني.
القسم الذي يلي الوسطاني يدعى ب"الجواني" وهو أهم قسم في الحمام، ولا يمكنك أن تدخل حمّام السوق دون أن تستمتع بدفء هذا المكان، حيث المياه الحارة وحجارة الحمّام الدافئة (والتي أخذت حرارتها من مرجل المياه والحراقات الموجودة تحتها) ستشدك للاستلقاء طويلاً على أرضيته حتى يتعرق جسمك، وتتفتح كافة مسام الجلد في إشارة لجهوزيتك لتلقي المياه الساخنة والاسترخاء لفترات طويلة مستمتعاً بسكب المياه على جسدك منتظراً وصول "المكيس"، وهو الرجل المخصص لفرك أجسام الزبائن وإزالة الطبقات الميتة من الجلد، ما يمنح الزبون إحساساً جديداً بالحياة بحسب من التقيناهم.
حين تدخل الجواني تقابلك باحة بأرض حجرية تعلو سقفها قبةٌ مزودة بفتحات دائرية صغيرة مهمتها التخفيف من بخار الماء الكثيف داخل المكان ومنحه بعض الأوكسجين.
تتوزع غرف الاستحمام على جهات الباحة الأربعة، مساحة كل واحدة منها نحو تسعة أمتار وفي صدرها جرن حجري وصنابير المياه، بينما تتوزع على الزوايا غرف أصغر حجماً صممت للجلسات الخاصة ولا تتسع لأكثر من زبونين أو ثلاثة.
دفع مستثمر الحمّام رامز قره محمد أكثر من ستة آلاف دولار حتى تمكن من إعادته للحياة، فقد تهالك سقفه وتصدعت جدرانه نتيجة عمره الطويل، ويقول رامز أنه أوشك على الانهيار لكن رغبة ما شجعته على ترميمه وإعادة استثماره على أمل أن يعوض الأموال التي دفعها عليه.
حافظ مالك الحمّام على النمط المعماري القديم في البناء، وأضاف بعض الرسومات التي تمنح المكان بعض الحداثة، يقول أن رائحة الماضي يجب أن تبقى في هذه الأماكن فهي المقصد الأساسي للزبائن.
يتقاضى رامز خمسة وعشرين ليرة تركية على الزبون الواحد وخمسة عشر على الطفل، دون تحديد مدة للبقاء في الحمام، وهو مبلغ يراه بعض من التقيناهم مرتفعاً، لكن رامز أرجعه إلى غلاء أسعار المحروقات المستعملة في تسخين المياه، ولاعتماده على نقل المياه إلى الحمام عبر الصهاريج، ويبلغ سعر الصهريج الذي يتسع لخمسة أمتار مكعبة نحو تسعين ليرة تركية.
تتنوع رغبات الزبائن الوافدين إلى الحمّام، إذ يحجزه البعض لإقامة سهرات شتوية مع الأصدقاء وفي هذا النمط من الحجوزات يغلق الحمّام أبوابه أمام العامة، وقد خصصت إدارة الحمّام أوقاتاً خاصة ضمن أيام الأسبوع لمثل هذه الحجوزات، وتبلغ فترة الحجز خمس ساعات تتقاضى عليها إدارة الحمام خمسين دولاراً.
يقول إبراهيم أبو عمر "زبون" أنهم وجدوا متنفساً في هذا الحمام، فالمنازل قد لا تشكل مكاناً مناسباً لسهرات الشتاء وخاصة إذا كانت الأعداد كبيرة، بينما يمنحهم الحمام الدفء المطلوب والحرية الكافية دون أن يشكل صخبهم أي إزعاج لصاحب المنزل. كما يعتمد آخرون على هذه الحمّامات لإقامة حفلاتهم الخاصة كالخطوبة وحفلة تجهيز العريس.
في الأوقات التي أتاحتها إدارة الحمّام للعامة يمكنك أن تشاهد زبائن من مختلف الفئات العمرية، يستذكر كبارهم أيام شبابه التي قضاها في هذه الحمّامات ويتعرف الصغار على الأجواء التي عاشها آباؤهم وسمعوا حكاياتها منهم لسنين طويلة.
يقول الحاج أبو عبدو أنه تقصّد اصطحاب حفيده إلى هذا المكان للاستمتاع بسهرة تراثية قد تسرقه قليلاً من ألعاب الجوال وتمنحه حمّاماّ ساخناً لن يحصل عليه في منزله.
تتيح إدارة الحمّام فترتي عمل لزبائنها صباحية للنساء ومسائية للرجال على أمل تقديم خدماتها لكافة الشرائح، ويرى من التقيناهم من الزبائن أن الرسوم المفروضة مرتفعة مقارنة بدخل الفرد في إدلب، إذ تتساوى مع أجرة عامل مياومة وهو ما يمنع كثيرين من ارتيادها.