طريق الميليشيات إلى الحصار
يُمكن اعتبار أن معركة حلب الكبرى قد بدأت عندما ظهر حسن نصر الله، قائد حزب الله اللبنانيّ، في الأيام الأخيرة من شهر حزيران الماضي وأعلن أن معركة حلب هي للدفاع عن سوريا بالكامل، وأنه سيزيد قواته في حلب، وأن على الجميع أن يتحضر لأن المعركة الحقيقية الاستراتيجية الكبرى هي معركة حلب.
وبالفعل لم تمض عدّة ساعاتٍ على خطابه حتى ظهرت نتائجه مباشرةً على الأرض، إذ اندلعت اشتباكاتٌ عنيفةٌ على جبهة الملاح القريبة من طريق الكاستيللو، الشريان الوحيد الذي يصل بين أحياء حلب الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة المسلحة والريف الشماليّ.
لم تكن لطريق الكاستيللو سابقاً أيّ أهمية، فهو طريقٌ ترابيٌّ سُمّي بهذا الاسم عام 2013 نسبةً إلى مطعم الكاستيللو القريب منه. كما أنه لم يكن الطريق الوحيد الذي يصل حلب بريفها، إلا أنه أصبح كذلك بعد خسارة المعارضة طريقين غيره.
معارك كبيرةٌ شهدتها منطقة الملاح، شمال الطريق، خلال الأسابيع الأخيرة؛ بين قوات النظام ولواء القدس وحزب الله وميليشيات عراقية وأفغانية من جهة، وفصائل المعارضة المسلحة كحركة نور الدين الزنكي وتجمع فاستقم كما أُمرت والجبهة الشامية وكتائب ثوار الشام وجبهة النصرة وغيرها من الفصائل من جهةٍ أخرى. وقد غلبت على هذه المعارك سمة الكرّ والفرّ، وأسفرت في النهاية عن سيطرة النظام على مزارع الملاح ومطعم الكاستيللو تحت غطاءٍ جويٍّ روسيٍّ كثيف، إذ شهدت منطقة الملاح وحندرات وطريق الكاستيللو يومياً، ولأكثر من شهرين، غاراتٍ جويةً على مدار الساعة، وصلت في بعض الأيام إلى أكثر من مئتي غارةٍ في اليوم الواحد، استعمل فيها النظام وحلفاؤه شتى أنواع الأسلحة ومن بينها القنابل العنقودية والقنابل الفوسفورية المحرمة دولياً.
كما تزامنت معارك الملاح مع معارك عنيفةٍ في معامل الليرمون وحيّ بني زيد جنوب الطريق، فأدى تقدم قوات النظام من جهة الملاح وسيطرة قوات حماية الشعب الكردية على السكن الشبابي في حيّ الأشرفية إلى محاصرة المعارضة المسلحة في حيّ بني زيد، مما اضطرها إلى الانسحاب في وقتٍ قصيرٍ ليسيطر النظام ويطبق الحصار الكامل على حلب.
معاناة المدنيين
كان للحصار وقعٌ مباشرٌ على السكان المقيمين في أحياء حلب المحاصرة، الذين يتجاوز عددهم أكثر من ثلاثمئة ألف، حسب إحصاء المجلس المحليّ لمدينة حلب. إذ افتقدت الأسواق لمواد عديدة، وخصوصاً المحروقات والخضروات والمعلبات. كما شهدت الأسعار ارتفاعاً كبيراً، فجرّة الغاز -مثلاً- زاد سعرها من خمسة آلاف ليرةٍ سوريةٍ ليتجاوز الخمسة عشر ألفاً بعد ثلاثة أيامٍ فقط من الحصار، وقد تجاوز الآن الأربعين ألف ليرةٍ بعد مضيّ أقل من شهرٍ على الحصار.
وعانت المدينة من احتكار بعض التجار للمواد الغذائية. المجلس المحليّ لمدينة حلب، وبناءً على دراسة اللجنة التموينية لأسعار المواد الأساسية الموجودة في السوق، أصدر تعميماً بعد اجتماعٍ تمّ عقده بين اللجنة التموينية والتجار والمنتجين، تضمّن لائحة أسعارٍ تمّ اعتمادها بالمشاركة مع أصحاب الخبرات والجهات المعنية. وأكد التعميم على عدم احتكار أو إخفاء أيّ سلعةٍ أو مادةٍ غذائية. التقينا أبو يوسف، أحد القاطنين في حيّ بستان القصر، الذي أكد لنا أن نسبةً كبيرةً من التجار لم تلتزم بالأسعار المحددة للمواد، وأن الأسعار ارتفعت كثيراً بالمقارنة مع متوسط دخل الفرد في حلب، وأن الموضوع خرج عن طاقة تحمله. أما أحد التجار، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، فقد فسّر عدم التزامه بالأسعار بأنه اشترى بعض المواد الغذائية بعد إغلاق الطريق، وبالتالي فإنه من الطبيعيّ أن يكون سعرها مرتفعاً.
بعد إطباق الحصار بدأ الأهالي باللجوء إلى وسائل جديدة، ومن أهمّها الزراعة التي انتشرت بكثرةٍ في أحياء حلب، في المنازل والحدائق وبين الركام وعلى أسطحة المباني. يقول أبو يوسف: «قمنا، أنا وأولادي، بنقل كميةٍ من التراب إلى حيّنا بستان القصر، ثم وزّعنا هذا التراب على صناديق من «الفلين» وزرعناها بأنواعٍ عديدةٍ من البذور التي يمكن أن تُزرع في مناخ حلب، وخصوصاً الكوسا والباذنجان والبندورة وغيرها من الخضروات».
وجاء انتشار الزراعة المنزلية رغم عدم وجود أيّ خبرةٍ سابقةٍ لدى الأهالي، نظراً لأن حلب مدينةٌ اقتصادية وتجارية لم يهتمّ سكانها بالزراعة من قبل، إلا أن الحاجة أم الاختراع!
كما أطلقت بعض منظمات المجتمع المدني مشاريع لزراعة الحدائق والأراضي الزراعية، في سعيٍ منها لمساعدة الأهالي على الصمود في وجه الحصار أكبر مدّة ممكنة.
ممرّات الاستسلام
بعد إطباق الحصار أقدم النظام على عدّة خطواتٍ غريبةٍ من نوعها، كان أولها إلقاء الطيران، خلال اليومين الأولين للحصار، موادّ غذائيةً روسيةً لا تكفي بمجموعها لثلاثين شخصاً. وقد لقي هذا الفعل السخرية من السكان؛ يقول أبو جميل: «جاءت الطائرة الحربية واستهدفت حارتنا بصاروخٍ حربيّ، استشهد نتيجته طفل، ولم تمض نصف ساعةٍ حتى عاد الطيران نفسه وألقى علينا بضع مواد غذائية، وكأنهم يريدوننا ألا نموت ونحن جائعون!».
وحذرت هيئة الطبابة الشرعية بحلب الأهالي من هذه الأطعمة لاحتمال كونها مسممة، وطلبت منهم عدم التعامل مع أيٍّ من هذه المواد بأكلها أو إطعامها لأطفالهم.
ولم تمضِ ساعاتٌ قليلةٌ إلا وأعلن إعلام النظام وشريكه الروسيّ عن فتح ثلاثة ممرّاتٍ آمنةٍ للمدنيين للانتقال من الأحياء المحاصرة إلى الأحياء التي يسيطر عليها النظام، بالإضافة إلى ممرٍّ واحدٍ للمقاتلين الذين يودّون تسليم أنفسهم، بعد أن أصدر بشار الأسد «عفواً» عن حاملي السلاح إذا بادروا إلى تسليم أنفسهم وأسلحتهم خلال ثلاثة أشهر، إلا أنه لم يسلم أحد نفسه!
المدنيون أيضاً لم تكن لديهم ثقةٌ بالنظام، ولم يجرؤ أيٌّ منهم على العبور إلى الأحياء الخاضعة لسيطرته، خوفاً من الاعتقال أو التصفية أو جرّهم إلى جبهات القتال عنوةً. وأكد ناشطون وإعلاميون لـ«عين المدينة» أن النظام لم يفتح عملياً أيّ معبرٍ من المعابر التي حدّدتها وسائل الإعلام التابعة له.
تتالت ردود الفعل السياسية حول المعابر، فقال رئيس مكتب العمليات الإنسانية في الأمم المتحدة، ستيفن أوبراين: «من الضروري أن تحصل هذه الممرّات على ضمانات جميع أطراف النزاع، وأن تستخدم طوعاً. كما يجب ألا يُجبَر أحدٌ على الفرار عبر طريقٍ محدّدةٍ أو إلى وجهةٍ معينة». وشدّد ستيفان دي ميستورا، مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، على أهمية منح المدنيين في حلب خيار البقاء في المدينة وعدم إجبارهم على الخروج منها. ومن جانبه أبدى السفير البريطاني ماثيو رايكروفت تشكيكه، رداً على سؤالٍ بهذا الشأن، وقال: «إذا أجازت هذه الممرّات نقل المساعدات إلى حلب فهي موضع ترحيب»، رافضاً فكرة استخدامها «لإفراغ حلب» تمهيداً للهجوم على المدينة. وتابع رايكروفت أن «أفضل ما يمكن فعله لتحسين الوضع في حلب هو وقف حملة القصف التي ينفذها النظام وحلفاؤه». وصرّحت الخارجية الفرنسية أن خطة الممرّات الآمنة في حلب ليست حلاً ذا مصداقية. وبدورها دعت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى هدنةٍ عاجلةٍ في المدينة.
ملحمة حلب الكبرى
لم تستكن فصائل المعارضة المسلحة للحصار، فأعدّت العدة والعتاد لفتح طريقٍ جديدٍ غير طريق الكاستيللو، من الريف الجنوبيّ الغربيّ لحلب بدلاً من الريف الشماليّ. وشهدت معارك اليوم الأول لما سمّته الفصائل «ملحمة حلب الكبرى»، في 31 تموز المنصرم، اشتباكاتٍ سيطرت خلالها المعارضة على مشروع 1070 شقة ومدرسة الحكمة وتلّتي مؤتة وأحد، في طريقهم إلى معمل الإسمنت وكتيبة المدفعية اللذين يُعدّان من أكبر قلاع النظام وأشدها تحصيناً في الشمال السوريّ. ومن المتوقع أن تشهد حلب واحدةً من أكثر المعارك ضراوةً خلال السنوات الأخيرة.
وتصادف اليوم الأول لمعارك فك الحصار مع حملة #الغضب_لحلب. وشهدت جميع شوارع حلب المحاصرة حرق الأهالي وأطفالهم إطارات السيارات لحجب الرؤية عن الطيران، وبالفعل هذا ما حدث. إذ شكّل حرق الدواليب غيمةً سوداء كبيرةً فوق حلب، ما أدّى إلى منع الطيران من استهداف الأحياء المحاصرة، حين حوّل أطفال المدينة الدواليب التي أشعلوها إلى نوعٍ جديدٍ من مضادات الطيران!
كل الأنظار الآن موجّهةٌ إلى حلب، فالملحمة الكبرى لن تكون سهلةً أبداً على جميع الأطراف، وخصوصاً بعد أن بدأت فصائل المعارضة المسلحة بالحديث عن تحرير كامل حلب لا عن فكّ الحصار فقط. والأيام القادمة كفيلةٌ بأن تكشف لنا الصورة المستقبلية لحلب، أكبر مدن سورية وعاصمتها الاقتصادية.
إعداد الأرض للزراعة - من صفحة المجلس المحلي لمدينة حلب