عدسة أنور | مخيم اليرموك | خاص عين المدينة
جنوب دمشق...
حيث يموت الناس بصمت
في الأحياء الجنوبيّة من دمشق، تحدث الآن قصةٌ من قصص المأساة. فهناك، وتحت الحصار، لم يبقَ أمام السكان سوى أكل لحوم الكلاب والقطط.
تتألف المنطقة الجنوبية المحرّرة من أحياء: اليرموك ـ التضامن ـ فلسطين ـ الحجر الأسود ـ سيدي مقداد ـ يلدا ـ ببّيلا ـ بيت سحم ـ حجّيرة ـ البويضة ـ سبينة ـ القدم ـ العسالي ـ جزء من البهدلية ـ جزء من السيدة زينب. تشكّل هذه الأحياء منطقةً واحدةً يسهل التنقل بين أجزائها، وتتمركز في محيطها الكبير تشكيلاتٌ مختلفةٌ من قوات الأسد، فارضةً حولها حصاراً محكماً.
ستون ألفاً من المدنيّين المحاصرين في الأحياء المحرّرة من جنوب دمشق، يقارعون اليوم مصيراً كارثيّاً مع القصف المتواصل والخوف والجوع. ولا يبدو أن الفتوى الشرعية، التي أصدرها العلماء وخطباء المساجد، بالترخيص بأكل اللحوم المحرّمة؛ قد تركت أثراً في ضمير أحدٍ ما في هذا العالم، يستطيع أن يخفّف، ولو قليلاً، من هذه المعاناة الفظيعة والمستمرة منذ ثمانية أشهر وحتى اليوم. ومن الغريب فعلاً أن يعيش هذا العدد الكبير من البشر بلا غذاءٍ أو ماءٍ أو أيّ خدمات، طوال هذه المدّة، وخاصةً بعد أن أغلقت بشكلٍ كاملٍ آخر المنافذ التي كانت تمرّر القليل من المواد الغذائية،وكان آخرها المدخل الرئيسي لمخيّم اليرموك
بجانب جامع البشير، حيث تتمركز قوةٌ مختلطةٌ من ميلشيا أحمد جبريل وشبّيحة شارع نسرين، وتمارس أبشع أنواع الجريمة. فيمكن لأيّ عنصرٍ منها أن يقتل أيّ شخصٍ يمرّ من هذا المعبر، فقد تصبح كيلوغرامات قليلة من الخضار سبباً لموت من يحملها أو اعتقاله وإرساله إلى ظلمات المقرّات الأمنية، أو أن يصير درعاً بشرياً يُستخدم في حالات الهجوم والدفاع. لا يفكّر الأهالي أبداً بالاقتراب من هذا الحاجز، ولا من غيره من الحواجز، بل يحاولون البحث عن شيءٍ يسدّ الرمق من تحت الأنقاض وبين أكوام النفايات ومن مطابخ البيوت التي هجرها أهلها ونزحوا، وأخيراً من لحوم الحيوانات الشاردة، كالكلاب والقطط والحمير.
لم يأكلوا خبزاً منذ شهرين
أمام المجلس المحلي في مخيم اليرموك تنتظر امرأةٌ في الخمسينيات من العمر أحداً ما من أعضاء المجلس، الذين يشعرون بعجزٍ كبيرٍ عن فعل أيّ شيء. تبكي هذه المرأة وهي تتحدث عن ابنها الذي انشقّ عن تشكيلات القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وانضمّ الى كتيبةٍ من كتائب الجيش الحر، وقاتل في صفوفها حتى استشهد ليترك زوجةً وأربعة أطفالٍ، ليس لها همٌّ في الدنيا سوى إطعامهم. وتتساءل المرأة، وهي تخفي وجهها بمنديلٍ
قماشيٍ تستخدمه العجائز: "كيف أطعمهم في هذه الظروف التي تحنُّ فيها حتى قلوب الكفار علينا؟". وتلوم هذه المرأة رفاق ابنها في الكتيبة التي قاتل فيها بعد انشقاقه لأنهم لم يعطوها بندقيته بعد أن استشهد، التي ترى أنها من حقّها لأن ابنها جلبها معه من "القيادة العامة"، وهي تريدها لكي تبيعها وتنفق على الأيتام الأربعة الذين لم يأكلوا الخبز منذ شهرين، ولم تستطع إطعامهم سوى وجبةٍ واحدةٍ في اليوم، وبحسب ما يتوافر من العدس أو البرغل، وفي أحسن الأحوال الأرز الذي بلغ سعره 800 ليرة للكيلو غرام الواحد. وليس لها من واردٍ ماليٍّ سوى 6000 ل. س يقدّمها المجلس المحلي كل شهر، ولا يكفيها هذا المبلغ لأكثر من أربعة أيامٍ، وخاصّةً مع الارتفاع الحاد لأسعار المواد الغذائية.
الطعام تحت القصف
في أحد الشوارع الضيّقة، وعلى خطّ التماس المشتعل دوماً في حي التضامن، اجتمع خمسة عشر مقاتلاً من الجيش الحرّ بلباسهم الميدانيّ الكامل، لتناول الغداء حول لوحٍ خشبيٍّ حُمل على الأحجار وعلى مقاعد محطمةٍ جُلبت كيفما اتفق لتُجلس هؤلاء الرجال الجائعين، الذين جاؤوا سيراً على الأقدام من يلدا وببيلا والحجر الأسود ليرابطوا في مدّة مناوبتهم، التي تستمرّ لنصف يومٍ في الحالات العاديّة ولأيامٍ عدّةٍ في أوقات المعارك. كانت وجبة الغداء مؤلفةً من صحنٍ واسعٍ من "المجدّرة" إضافةً لإبريق ماء. دار الحديث حول اختيار أحمد طعمة الخضر رئيساً
للوزراء، وكان التفاؤل بهذا الشخص هو رأي معظم هؤلاء المقاتلين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 30 عاماً، ويتحدّرون بمعظمهم من الجولان، وكانوا يعملون قبل الثورة في حرف الخياطة ومصانع الألبسة أو تجاراً صغاراً على البسطات أو عمالاً في ورشات صيانة السيارات، ولا يفكّرون يوم سقوط النظام سوى بالعودة إلى بيوتهم وأعمالهم السابقة، بالرغم من الأصالة التي تُظهرها هيئاتهم كمقاتلين شرسين متخصصين بحرب الشوارع، وكأشخاصٍ اعتادوا على فكرة أن يموت المرء بشظيةٍ وهو يقاتل أو يمشي أو يستريح على وجبة الغداء. وعندما سقطت قذيفةٌ قريبةٌ جداً لم يرتعب أحدٌ من الموجودين سوى "عين المدينة"، أما الشبان فقد واصلوا طعامهم وهم يدمدمون كنوعٍ من العادة لا أكثر: "يا لطيف يا ستار"، دون أن يتساءلوا: أين سقطت القذيفة؟ بعد الغداء لم يكن هناك شاي، بل سائلٌ مغليٌّ أخضر هو مزيجٌ من الأعشاب والزهور الملتقطة من الأحراش والبساتين، وقد جُفّفت لتستخدم كبديلٍ عن الشاي، الذي بلغ ثمن الكيلو غرام الواحد منه 5000 ليرة.
تمتلك هذه المجموعة المقاتلة دراجتين هوائيّتين كوسيلتي نقل؛ واحدةٌ تبقى في المقرّ للخدمة والثانية جوّالةٌ لتوزيع الذخيرة والطعام على الأفراد أثناء المرابطة على خطوط التماس.
الممرّضة التي تقاتل في أوقات الفراغ
قبل الثورة، لم تكن لفاطمة (29 عاماً) صلةٌ بمهنة التمريض، ولكنها اليوم تعمل في مركزها الإسعافي الصغير كممرّضةٍ محترفةٍ وطبيبةٍ وجرّاحةٍ مبتدئة، وتبذل قصارى جهدها في العناية بالجرحى. تذكر فاطمة دافعين اثنين دفعاها للانخراط في هذا العمل الشاق؛ وهما، بحسب تعبيرها: إعلاء كلمة الله بعد أن كثر الظلم من نظام الأسد، وثانياً هروب الأطباء والكوادر الطبية من المنطقة. ترى فاطمة في مهنة الطب عملاً إنسانياً نبيلاً ونوعاً من أنواع الجهاد، وتقول إنها تشعر، حين تنجح في علاج مصابٍ، بأنها ملكت العالم كله. وعلى الفور تتغيّر ملامح وجهها وهي تفطن إلى الحقائق المؤلمة التي تواجهها كل يوم،من ندرة المواد والمستلزمات الطبية.
وتقول إن اللحظات الأسوأ في حياتها هي حين تنظر إلى الجريح الذي يموت أمامها وتعجز عن فعل شيءٍ له، وخاصةً عندما يمكن أن ينقذه شيءٌ بسيطٌ مثل كيس السيروم، الذي ارتفع سعره إلى عشرة آلاف ليرة، إن توفّر، ففي معظم الأوقات يعدّ هذا الكيس من البضائع النادرة.
تزوجت فاطمة واحداً من المقاتلين. وهي تؤكد أن زوجها لم يحاول أن يبعدها عن مهنتها التطوعية، إنما يشجّعها دائماً ويساعدها في أوقات فراغه. وبالمقابل تساعده هي أيضاً في أوقات فراغها، فتحمل البندقية وتمضي إلى الخطوط الأولى في الجبهات لتقاتل هناك مثل أي مقاتلٍ محترف. فاطمة، تلك الشابة من حوران، أنموذجٌ مميّزٌ من نماذج المرأة السورية الثائرة.
لائحة الأسعار بالليرة السورية: كغ سكر: 1000 كغ شاي: 5000 كغ برغل: 400 كغ رز: 800 ليتر البنزين: 2500 كغ التبغ الفرط: 15000 علبة الحمراء الطويلة: 1000