- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
تدهور اقتصاد الرقة وانهيار بنيته الأساسية ضعفٌ في الإنتاج ومشاكل متفاقمةٌ في سوق العمل
من صفحة "عدسة شاب رقاوي"
يعاني الاقتصاد السوريّ اليوم بشدّةٍ من قلة الموارد وانحسار فرص العمل، والتضخم المستمرّ لاقتصادٍ أخذ يتحوّل بسرعةٍ الى اقتصادٍ استهلاكيٍّ صرف، مدفوعاً بالأزمة السورية المستحكمة، والحرب المستمرّة التي طحنت رحاها الإنسان والمجتمع والدولة، ما ينذر بكوارث كثيرةٍ قادمةٍ ستضرب حياة السوريين وتزيد في معاناتهم. وفي الرقة يشهد السوق موجاتٍ متتاليةً من الغلاء ضربت أركانه، ارتفعت حرارتها فوق حرارة شمس تموز، في فصلٍ كان من المفترض أن يكون فصلاً للمؤونة وتخزين المواد استعداداً لشتاءٍ طويل.
انهيار سوق العمل
أمام سوق الخضرة، وبالقرب من دوّار "الدلة"، يجلس بعض الرجال منتظرين رزقهم. هم عمال "الفاعل" كما يطلق عليهم. يلفت الانتباه بينهم رجلٌ في منتصف العقد الخامس من عمره. الجميع يدعوه هنا "العم عمّاش". يقول واصفاً حاله: "أنتظر قدوم أيّ شخصٍ يحتاج إلى مساعدةٍ في عمله أو منزله، لأذهب معه"
كان عمّاش في السابق عاملاً في إحدى مؤسسات الدولة، قبل أن يتمّ سجنه لمدة ثلاثة أشهرٍ ثم تسريحه من العمل، لكن ذلك لم يؤثر في عزيمته كما يبدو. يشير بيده مبتسماً: "عملت في كلّ شيء؛ تصليح الكهرباء والماء، وحمل الأغراض ونقل الرمل والبلوك، أيّ شيءٍ يؤمّن لي قوت يومي".
اليوم، لا يمتلك هذا الرجل دخلاً ثابتاً، وهو بحاجةٍ إلى النهوض كلّ يومٍ والعمل أياً كانت الظروف. ويعبّر عن ذلك بقوله: "اليوم الذي لا أعمل فيه لن آكل فيه". ليس هناك أجرٌ ثابتٌ لهؤلاء العمال، بل يتوقف الأمر على ما يتفقون عليه مع من يستخدمهم وما تجود به كفه، لكنه في الغالب يتراوح بين 600-1500 ل.س، بما يعادل 5 دولاراتٍ إذا كان بسيطاً، ويرتفع كلما زادت المشقة والكمية. وقد يتشارك فيه عددٌ من العمال ثم يتقاسمون الأجر بينهم.
يعاني السوق هنا بشدةٍ، فقد تراجعت فرص العمل في المدينة، وخاصةً بعد هجرة الكثير من التجار والمستثمرين منها، وانخفاض واردات الزراعة، إضافةً إلى رحيل عددٍ لا بأس به من الطبقة الوسطى (موظفي القطاع العام) عن المدينة مدفوعين بأسبابٍ داخليةٍ وخارجية.
يعيش عمّاش مع أختيه في بيتٍ صغيرٍ في حيّ رميلة. وهما تعملان بدورهما في نسج الليف والخياطة، في محاولةٍ لمساعدته على تكاليف الحياة التي ارتفعت كثيراً، فثمن جرة الغاز وصل إلى 4000 ل.س، أي ما يعادل 13 دولاراً تقريباً. بينما متوسط الدخل 17000 ل.س، أي ما يعادل 100 دولار، ما يخلق فجوةً بين حاجات الأفراد الأساسية ومداخيلهم.
كل شيءٍ توقف في الرقة. والطفرة التي أحدثها نزوح مئات آلاف اللاجئين إلى المدينة تلاشت مع خروجهم منها، ما انعكس على انخفاض أسعار المنازل وأجرتها، وأثر على تناقص حركة البناء بشكلٍ ملحوظ.
"تمرّ الرقة بأيام شدّة"، يقول عمّاش وقد بدت خطوط الزمن واضحةً على جبينه، وعيونه الحائرة تكاد تصف مرارة الحال هنا. هو وجهٌ آخر للمأساة التي تتراكم بعد شحّ الكثير من الموارد، ونقص فرص العمل التي تتناسب مع قدرة كلّ فردٍ وإمكاناته.
تداعياتٌ اجتماعية
بيع السلع الاستهلاكية، وبخاصةٍ منها المواد الغذائية، على العربات المتنقلة أو البسطات، يوفر مجالاً مفتوحاً للعمل طوال العام دون الحاجة الى إمكاناتٍ كبيرة، ولذلك يلجأ إليه أغلب الباحثين عن عمل.
غير بعيدٍ عن إحدى فروع جامعة الفرات في الرقة، وعلى بعد أمتارٍ من متحف المدينة، ينتشر عددٌ من الشبان الذين يبيعون الخضار على الرصيف. أحدهم هو محمد، شابٌّ في التاسعة عشرة من عمره، يقول: "كان يفترض أن أكون قد أنهيت عامي الأول في الجامعة، لكن حاجات أهلي دفعتني إلى سوق العمل. الأسعار هنا في ارتفاعٍ مستمرٍّ والموارد محدودة".
ليس محمد الوحيد بين العاملين الذي ابتعد عن مقاعد الدراسة، فإلى يمينه يجلس طفلٌ في الثالثة عشرة من عمره، يبيع البطيخ الأحمر أو ما يعرف هنا بـ"الجبس"، وكثيرٌ غيرهما ينتشرون في شوارع المدينة. فالأولوية، بشكلٍ قاطعٍ، هي لتأمين لقمة العيش. الكثيرون هنا هجروا طفولتهم مبكراً وزُجّ بهم في سوق العمل، مدفوعين بالحاجة إلى ما يسدّ رمقهم ويدفع عن عوائلهم ذلّ السؤال.
يقول محمد: "ربما ليست مصادفةً أن نجلس هنا بين بيت العلم الذي يفترض أن يصنع المستقبل وبيت التاريخ الذي يفترض أن يجمع الماضي. وكلاهما أصبح اليوم خاوياً على عروشه واستحكم فيه الفراغ والخراب، فلا غرابة لحالنا هذا".
مهنٌ مستحدثة
"أوجدت هذه الأزمة أسواقاً جديدةً أبرزها سوق الصناعة النفطية"، كما يقول أبو قاسم، الذي يعمل مع أولاده الأربعة في بيع المشتقات النفطية قرب حديقة "البجعة"، ليضيف: "مناطق محدودةٌ في سورية هي التي استفادت من النفط وخيراته، أما البقية فبقيت لها المعاناة من الآثار السلبية متمثلةً بارتفاع الأسعار الذي انعكس أثره على كل أوجه الحياة وكلّ السلع".
الرجل، الذي يتناوب مع أطفاله الثلاثة على أربعة براميل لأنواعٍ مختلفةٍ من الوقود، صُنّفت بحسب نوعها وجودتها، يقول: "كنت أملك محلّ ملابس في حلب، لكن ظروف الحرب أجبرتنا على النزوح إلى الرقة. وهنا لم أجد ما أعمل فيه، بعد أن خسرت كلّ ما أملك، سوى بيع النفط. عملٌ سهلٌ ولا يحتاج إلى الكثير من الخبرة، كما أنه يدرّ ربحاً معقولاً. ليضيف مازحاً: "بقية المهن اليوم تشكو الكساد".
ورغم أن بيع النفط ومشتقاته يوفر اليوم الكثير من فرص العمل للأفراد، من خلال شراء هذه المواد من التجار ثم بيعها من جديد، إلا أنه يبقى محدود الأثر في الاقتصاد، رغم مردوده، شأنه في ذلك شأن جميع أنواع "الوساطة"، إضافةً إلى المخاطر الصحية العديدة التي يسبّبها عدم استخراج النفط بشكلٍ صحيحٍ، وعدم فرزه وتنقيته كما يجب لتقليل مخاطره الكيميائية.
مهنةٌ أخرى وجدت طريقها بشكلٍ كبيرٍ إلى سوق الرقة، وهي مقاهي الإنترنت التي تنتشر اليوم بشكلٍ كبيرٍ في كلّ الشوارع، ما جعلها معرضاً للنكات والتهكم، فهي "صنعة من لا صنعة له"، وهي عمل الجميع، و"إذا مفتضي افتحلك مقهى".
وجدت هذه المهنة سوقاً مفتوحاً لها وترحيباً من المستهلكين، بعد انقطاع وسائل الاتصال، واستطاعت أن تحجز لنفسها حصةً كبيرةً من السوق، ولكن دون أن تحقق عمالةً موازيةً (فرص عمل) تتناسب وحجم الاستهلاك الكبير لهذه الخدمة.
ويرى الكثير من المحللين أن تحوّل الرقة من مدينةٍ ذات اقتصادٍ مختلطٍ قبل عامين - زراعيٌّ في أغلبه، وتجاريٌّ في بعض جوانبه، وبدء وجود بنيةٍ تحتيةٍ لقاعدةٍ صناعيةٍ وإن كانت أوليةً - إلى اقتصادٍ استهلاكيٍّ بالمطلق وغير قادرٍ على العمل والإنتاج، سيترك الأبواب مشرعةً للمجهول الذي يعصف بواقع ومستقبل هذه المدينة بشكلٍ خاصٍّ وسورية بشكلٍ عامّ.