- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
الولاء شرط البقاء في دولة الأسد.. مئات الآلاف من خريجي الجامعات رحلوا بلا نية للرجوع
لم تشفع المكانة العلمية لابن درعا الدكتور عمار العمّارين (دكتور الهيدروجيولوجيا في جامعة حلب) في منع اعتقاله من قبل الأمن العسكري لمدة 25يوماً في تشرين الثاني 2011، ولم تدم حرية العمارين أكثر من أربعة أشهر قضاها في مدينة دمشق كمنسق لجامعة حلب، حتى ألقى الأمن القبض عليه على حاجز أشرفية صحنايا القريب من منزله في 28/3/2012.
كان هذا الاعتقال الأول لدكتور جامعي في مدينة حلب، وكانت التهمة، على حد قول أصدقائه، مشاركته لصورة من صفحة فيصل القاسم بعنوان «من أكل الشوكولاطا». إلّا أن عشرات التقارير التي رُفعت إلى أفرع الأمن من قبل دارسين وزملاء له، بالإضافة إلى كونه ابن محافظة درعا، ونشاط بعض أقربائه في صفوف المعارضة، هو ما أدى إلى اعتقاله بحسب آخرين.
حادثة العمارين فتحت الباب أمام هجرة الكثير من الكوادر التدريسية والكفاءات العلمية العالية إلى خارج البلاد، كان أولهم زملاءه في قسم الجيولوجيا الذي خلا من الدكاترة، إذ لم يبق في القسم سوى ثلاثة دكاترة (من أصل 15 دكتوراً في عام 2011)، أحدهم تم التمديد له منذ سنوات لوصوله إلى سن التقاعد. وليتخرّج من القسم نفسه في عام 2017طالبان فقط، أحدهما، بموجب قانون التعليم العالي، سيسافر لإكمال دراسته، فيما سيُعيّن الآخر كمُعيد في القسم الذي ضم هذا العام في سنته الأولى سبعة طلاب فقط، ولينال جائزة الباسل بالتزكية وقيمتها 10 آلاف ليرة سورية!
أسباب وأرقام
إن ظاهرة «نزف العقول» ليست جديدة في الواقع التعليمي السوري، وبحسب دراسة أجراها المعهد الوطني للإدارة العامة في مناطق النظام فإن عدم تقدير الكفاءات، وغياب الإنفاق على مراكز البحث العلمي، وانخفاض الرواتب والتعويضات، وإلحاق الكفاءات بوظائف لا تتناسب مع تحصيلهم العلمي، يُعتبر من أهم الأسباب في هذه الظاهرة. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة فإن نسبة هذه الهجرة قد ارتفعت إلى 10.7% في عام 2010، بعد أن كانت 6.03% بين عامي2000-2005، جُلّهم من أصحاب الكفاءات العلمية. زادت هذه النسبة في أعوام الثورة، فبحسب دراسة قام بها مركز الإحصاء التابع للنظام هناك 17000 شهادة (دراسات عليا ودكتوراه وطب وصيدلة) خرجت من سوريا بطريقة نظامية حتى 2015، ووفقاً لتقارير المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة أن أكثر من مليون شخص سوري وصلوا إلى أوروبا، 50%منهم يحملون إجازات جامعية. وحسب صحيفة دي فلت الألمانية5000« لاجئ يحملون شهادات عليا تتناسب مع معايير الدراسات الأكاديمية الألمانية وصلوا إلى ألمانيا» في العام نفسه.
بالإضافة إلى الأسباب السابقة فإن المنهجية المستمرة التي انتهجها نظام الأسد لتطفيش العقول «المستقيمة» التي تعرقل فيضان الرفاق وأبنائهم الشبيحة، وفقدان الجامعات لوظيفتها الأكاديمية والاجتماعية لصالح تحوّلها إلى مصافي أمنية، والاعتقالات التعسفية، وزجّ الكفاءات العلمية في «خدمة العلم والاحتياط»، وانحياز الكثير من الدارسين للثورة السورية (مع تركّز التعليم الجامعي في مناطق النظام، إذ لم تكن هناك جامعات في المناطق المحررة)، وغياب فرص العمل وغلاء المعيشة، شكّلت أسباباً رئيسية لنزف العقول السورية إلى دول أخرى، خاصة تلك الدول التي سهّلت عملية الهجرة واستقطبت هذه الكفاءات، وأعطتها الأولوية للاستفادة منها.
الولاء للأسد هو شرط البقاء في البلد
لم يولِ نظام الأسد ظاهرة نزف العقول تلك الأهمية، ولم يسعَ، سواء في حكم الأسد الأب أو الابن، لاستقطابها وإعطائها دورها الحقيقي، بل عمل على تطفيشها من خلال التهميش والاعتقالات والتصفية لكثير من الأكاديميين الذين يُخالفونه الهوى من جهة، أو إجبارهم على الهجرة من خلال الاعتقالات المتكررة من جهة أخرى، كأمثال حسن محمد حسين (أستاذ الفيزياء النووية) الذي مات تحت تعذيب سرايا دفاع رفعت الأسد في بداية الثمانينات، واعتقال الدكتور عمار العمارين خريج جامعة برلين، وعشرات الأكاديميين الذين تم اعتقالهم أو تصفيتهم خلال سنوات الثورة.
يتساءل أحد الدكاترة السوريين الموجود في غازي عينتاب «كيف يمكن، سابقاً، لشخص مثل رفعت الأسد أن يتحكم بمصير الدراسات العليا؟! ثم لماذا تتكلف الدولة السورية بكل تلك المبالغ –ما يقارب 215 ألف دولار في الكليات العلمية و200 ألف دولار في الكليات النظرية- لإكمال دراسة دكتور واحد، لتعينه في مكان غالباً يُخالف اختصاصه، وبراتب لا يزيد عن 50 ألف ليرة؟».
إن استشعار أصحاب الكفاءات العلمية للخطر وهجرتهم كان رسالة واضحة من قبل نظام الأسد، وجّهتها لهم الأفرع الأمنية صراحة، وهذا ما قاله شهاب شهابي دكتور في قسم الإحصاء في جامعة حلب «بعد اعتقالي من قبل الأمن السياسي واستضافتي لـ 3أيام، وقبل إطلاق سراحي همس في أذني الضابط أتمنى أن لانراك مرة أخرى لا هون ولا بالبلد»، لملم الدكتور أوراقه واتجه إلى تركيا مباشرة عبر المعبر النظامي السوري، لم يُمنع من السفر، وهو الآن مدرس في جامعة أنقره.
أما الدكتور صفوان عاشور (عميد كلية العلوم) فقد كانت الرسالة هذه المرة عبر اختطافه على يد مجهولين في حي الفرقان بحلب، جاء الاختطاف بعد منعه لشبيحة الأسد من اقتحام الكلية على خلفية مظاهرة في الكلية وقتها، وأطلقه الخاطفون مقابل 500 ألف ليرة سورية ليفهم الرسالة بوضوح، ويغادر إلى تركيا ليتابع مسيرته الأكاديمية في جامعات غازي عينتاب.
لم تنفع كل الوساطات الأمنية من مقربين للدكتور العمارين وعلى رأسهم مستشار وزير التعليم آنذاك في إطلاق سراحه ومعرفة مصيره، لتنقطع أخباره تماماً، وهناك ترجيحات من عائلته بأن نظام الأسد قد قام بتصفيته.