همٌّ جديدٌ تزامن ظهوره مع إطالة عمر الثورة السورية، لكنه يختلف عن باقي الهموم التي أثقلت كاهل الأحرار في هذا البلد بأنه يستهدف جنساً معيّناً وشريحةً معينة، وهي الصبايا اللاتي تأخر زواجهنّ، إذ بات شبح العنوسة يقضّ مضاجعهنّ، ويحيل حياتهنّ إلى كابوسٍ كبير. فالنزوح بين أرصفة المدن وفي المخيمات جعل الكثير من العائلات في وسطٍ غريبٍ يضطرّ أفرادها فيه إلى التزام التواصل الحذر في هذه المجتمعات الجديدة.
بعيداً عن الأهل والجيران
منى (32 عاماً) فتاةٌ من دير الزور، تعيش مع أمها وأختها في غرفةٍ بإحدى مراكز النزوح في محافظة الحسكة. لم تستطع إكمال تعليمها بعد الشهادة الإعدادية بسبب الظروف المادية البسيطة لأسرتها. عبّرت عن معاناتها من تأخر زواجها بالقول: كنا نقيم في حيّ الحميدية بدير الزور، وهو حيٌّ يتميّز بالحميمية الشديدة بين سكانه، إذ إن قسماً جيداً من الأسر جيرانٌ منذ أكثر من ثلاثة أجيال، لذلك الجميع يعرف الجميع، وعلاقات الناس - خصوصاً من سكان الحيّ الأساسيين - علاقاتٌ عميقةٌ وجميلة. وقبل أن نضطرّ إلى النزوح (وسكان الحميدية هم من أوائل النازحين من محافظة دير الزور، بسبب خصوصية علاقة هذا الحيّ بالحراك المسلح)، عندما كنت في منزلنا، لم تكن تمضي مدّةٌ طويلةٌ حتى يقرع بابنا خطيبٌ لي، ولكني كنت أتمنى - كغيري من الصبايا - أن أحظى بنصيبٍ أكثر ملائمةً لي ولظرفي الأسريّ. أما خلال هذ السنوات من عمر الثورة فلم تطلب يدي إلا مرةً واحدة، ولم يكن الشخص ملائماً أبداً، فهناك فرقٌ في السنّ، وكان متزوجاً ولديه أولاد.
انتظار طابور الأخوات
ثمة أسرٌ تصرّ على أن تزوج بناتها بالترتيب العمري، الأمر الذي يحول دون تيسير نصيب البنات بسبب تعثر زواج أختهنّ التي في المقدمة. وحول هذه المشكلة أفادتنا هديل (34 عاماً، خريجة معهد إعداد المدرّسين)، والتي تقيم هي الأخرى مع أهلها في أحد الصفوف في مدرسةٍ بالميادين: أعاني مع أخواتي الخمسة، واللاتي كلهنّ في سنّ الزواج، من عقلية والدينا المتشبثة بفكرة التسلسل في تزويج البنات. فبعد زواج أختي الكبيرة، قبل الثورة بأشهرٍ قليلة، ترسّخت لدى أهلي فكرة أن يمشي نصيبنا بالترتيب. لكن ما عقّد الموضوع هو أننا في وضعٍ طارئ، وأغلب أصدقاء الأسرة وأقاربها قد نزحوا إلى أماكن ومدنٍ أخرى وتوزّعوا في قرى الدير المختلفة، بالإضافة إلى قسمٍ بسيطٍ يقيم في محافظتي الحسكة والرقة، فلهذا عدد الخطّاب الملائمين لظرفنا قليلٌ جداً. وها أنا كأختٍ رابعةٍ في الترتيب أنتظر زواج أختين أكبر مني سناً - رغم ندرة العرسان - حتى تتاح لي الفرصة.
الظروف غير المهيَّأة للشباب داعمٌ قويٌّ للعنوسة
لما كان النزوح شاملاً، فإن أعداداً كبيرةً من الشباب فقدت وظائفها الأساسية، وإما ظلت من دون عملٍ أو مارست مهناً ذات مردودٍ متدنٍّ. ولعلّّ الأعداد الكبيرة من اليد العاملة الوافدة لها الدور الأكبر في تقليل الأجور هذا، الأمر الذي يصبّ بالمحصّلة في تردّد أو امتناع كثيرٍ من الشباب الذين هم في سنّ الزواج عن خطبة الفتيات. هذا ما أوضحه صلاح صبري (35 عاماً، خريج معهدٍ صناعيّ)، وهو شابٌّ من حيّ العمال بدير الزور، بقوله: أعيش حالياً في قرية الطيبة المجاورة للميادين، أنا وأفراد عائلتي التسعة، في منزلٍ مكوّنٍ من غرفتين. وأعمل لاثني عشرة ساعةً في اليوم (وأتقاضى أجراً شهرياً 20000 ل.س) كي أستطيع مساعدة أسرتي، إضافةً إلى دفع إيجار المنزل وهو 15000 ليرة شهرياً، إذ إن راتب والدي التقاعديّ (14300 ليرة) لا يكفي للمعيشة فكيف للإيجار! ولست أنا فقط من يعمل، فهناك أخٌ صغيرٌ لي يعمل كأجير مقهى بيوميةٍ تقدر بـ300 ليرة. وكلّ ذلك حتى نسدّ الرمق لا أكثر. فهل من خلاصٍ لرحلة المعاناة هذه، لكي تنعم أسرنا بالاستقرار، وبالتالي يتاح لأبنائها التفكير في بناء حياةٍ جديدة؟