- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
البالة للحرق في شمال غربي سوريا .. بين قرارات تركية وحواجز الجبهة الشامية
انتعشت منذ جائحة كورونا تجارة البالة في الشرق الأوسط بسبب تزايد الاعتماد على التسوق الإلكتروني في أوروبا خاصة، الأمر الذي منح تجارة البالة مصدراً جديداً لمادتها الخام، وهو الألبسة المرتجعة عبر التسوق الإلكتروني. لكن الأمر بدا معكوساً في حالة شمال غربي سوريا، حيث شهد سوق البالة منذ بداية كورونا تراجعاً وصل إلى عتبة التخلي عن البالة كمصدر رئيسي لشراء الملابس، وتخصصيها بالمقابل للتدفئة لا أكثر.
أم محمد (45 عاماً) صاحبة محل بالة من مدينة جنديرس، اعتادت على إخبار جاراتها عندما تحضر "شدة بالة" جديدة قبل أن تفتح أغلفتها، إلا أن المرة الأخيرة كانت سبباً في إغلاق محلها، إذ تفاجأت أن البالة التي فتحتها بحضور جاراتها أنها "لا تصلح إلا للحرق" حسب تعبيرها، وتضيف "هذه هي المرة الثانية خلال شهرين يحدث معي نفس الأمر، خسرت جل رأس مالي البالغ مئتي دولار، ما أجبرني على إغلاق محلي".
تعتبر أوروبا مصدر البالة في الشرق الأوسط بالعموم، ومنها أخذت اسمها الشائع في سوريا "بالة أوروبية" الذي يطلق عادة على البالة ذات الجودة العالية، دون أن يعني ذلك أن النوعية المتدنية من منشأ آخر. والأمر ذاته في شمال غربي سوريا، حيث يتراوح سعر القطعة الجيدة من الملابس المستعملة (بنطال أو كنزة) بين 25 و50 ليرة تركية، وهي أسعار غالية نسبياً، فيما تباع باقي القطع ذات الجودة دون المتوسطة ما بين 5 و10 ليرات تركية.
تعد الأراضي التركية منفذاً إجبارياً للبالة التي تدخل إلى شمال شرقي سوريا، لكن تجارتها تعثرت حين منعت تركيا دخول البالة إلى المنطقة منذ ما يقارب سنتين، وما زال المنع سارياً إلى الآن. ووفق مدير مكتب العلاقات العامة في معبر باب الهوى مازن علوش، فإن قرار المنع جاء مع بدء جائحة كورونا من قبل الجانب التركي، و"لم يستأنف من حينها" كما أخبر عين المدينة.
منذ قرار منع دخول البالة والتجار يستعملون طرق التهريب للالتفاف على القرار وإيصال بضائعهم إلى المنطقة، فتسلك البالة لذلك طريقاً يبدأ من تركيا ثم يمر بإقليم كردستان العراق متجهاً إلى مناطق سيطرة "قوات سوريا الديقراطية" (قسد) فمناطق فصائل "الجيش الوطني" في طريقها إلى شمال غربي سوريا حيث تخضع لقرارات محلية أخرى.
يعمل عبد الهادي حمادي (من إدلب يقيم في تركيا) في استيراد البالة من بلجيكا إلى ميناء مرسين في تركيا، حيث يتم فرزها حسب النوع والجودة ومن ثم تصديرها إلى سوريا ودول أخرى. وقد استمر بعمله بعد قرار المنع عبر الطريق المعتمد من العراق، لكنه توقف عن إرسال البضاعة من النخب الأول (تسمى بويا) إلى إدلب وريف حلب، بعد قرار أصدره فصيل "الجبهة الشامية" المنتشر في ريف حلب الشمالي والشرقي، ينص على فتح شدات البالة عند معابر الفصيل.
الحمادي شرح سبب امتناع التجار عن إدخال البضاعة الجيدة، بأن تجار المفرق يرفضون شراءها حال فتحها حتى لو كان على الحواجز، وبيّن أن ثمن الشدة منها بوزن 45 كغ يتراوح بين 60 و 75 دولاراً، وقد تزيد وفقاً للنوع (أحذية، ملابس صيفية، معاطف، ملابس نسائية، ألعاب أطفال) وأن فتحها يجعل من تجار المفرق يضعون لها أسعاراً لا تتناسب مع سعرها الذي يضعه تجار الجملة.
ويضيف الحمادي "يقتصر ما نرسله إلى الشمال السوري على البضائع من النخب الثاني والثالث أو ما يعرف ببالة الحرق، تكون أوزانها كبيرة قد تصل إلى مئتي كغ، ويبلغ متوسط سعرها من 50 إلى 75 دولار بالجملة، كما أننا توقفنا عن إرسال سيارات كبيرة وأصبحنا نرسل سيارات صغيرة لسهولة مرورها عبر الحواجز وقصر الزمن اللازم لتفتيشها، وهو ما زاد من أجور النقل وأدى إلى رفع أسعارها".
تواصلت عين المدينة مع المكتب الإعلامي في "الجبهة الشامية" وسألته عن آلية التفتيش ودواعيها، لكن الرد اقتصر على أن "تفتيش أي شيء أمر طبيعي"، دون إعطائنا تفاصيل أكثر.
"بالة أوروبية" ورقة كتبها خالد الرنكوسي (كما يدعو نفسه) على واجهة محله في عفرين، إلا أن البضاعة المعروضة تشير إلى عكس ذلك؛ جودتها تكاد تكون دون المتوسطة. يعلّق الرنكوسي "هذه الورقة معلقة منذ مدة طويلة جداً، قبل أن تتدنى جودة البالة ولا يصلنا إلا الجودة دون المتوسطة".
يعرض الرنكوسي عدة قطع من الألبسة موضحاً أن سعر مبيعها لا يتجاوز عشر ليرات تركية وهو ما يقارب سعر تكلفتها، مرجعاً السبب إلى تردي جودتها. ويستطرد قائلاً "سعر شدة البالة وزن 85 كغ جودة متوسطة تبلغ ما بين 100 و110 دولار. كنا سابقاً نجد كمية جيدة من القطع التي تعتبر ممتازة وهي أساس ربحنا، أما الآن لا نجد إلا عدد محدود لا يكفي لاسترجاع أقل من نصف ثمنها، والباقي نبيعه بسعر التكلفة محاولتين تغطية النصف الآخر من ثمن شدة البالة".
البالة مصدر اللباس الرئيسي لكثير من العائلات في شمال شرقي سوريا لرخص ثمنها مقارنة بالألبسة الجديدة، وعماد فيصل (50 عاماً) أحد أفراد تلك العائلات. بعد أن هجر من مدينته دمشق إلى مخيم دير بلوط في جنديرس اعتاد إجراء جولات شبه أسبوعية على محلات البالة في كل من أطمة وسرمدا والدانا في ريف إدلب الشمالي، وجنديرس وعفرين في ريف حلب الشمالي، عندما لا يكون لديه عمل في البناء أو قطاف المحاصيل.
يقول الفيصل "لا يتجاوز دخلي اليومي ثلاثة دولارات، وهي لا تكفي ثمن طعام فضلاً عن لباس لأربعة أطفال. كنت أجد في البالة قطع من الثياب والأحذية المستعملة بجودة جيدة وأسعار رخيصة، وكان يكفي أجر يوم واحد لشراء عدة قطع من الثياب". ويتابع "الآن أجري جولة على كل محلات البالة في المناطق المحيطة بمخيمنا، نادراً ما أجد ما يستحق الشراء، بت أشعر أن البالة تحولت إلى زبالة ليس إلا".
يرتب خالد العلي (30 عاماً من حمص) بضائع محله في سرمدا كل صباح، ويجلس يرقب الزبائن وهم يدخلون ويخرجون دون شراء أي قطعة. يقول "لا ألومهم، جودة البضاعة باتت رديئة، وغالب زبائننا يتصيدون القطعة الجيدة لتكون بديلة عن الملابس الجديدة".
ويوضح العلي أن أصحاب المحلات يلجأون إلى بيع ما أمكن منها، ثم يدفعون بها للبيع في المخيمات خاصة كبديل للتدفئة، بسعر ليرتين تركية للأحذية وليرة واحدة للملابس.