دير الشعّار وأبناؤها من جديد
تداول الأهالي منذ فترةٍ خبر عزم تنظيم الدولة منع التلفاز نهائياً في الأراضي التي يسيطر عليها. لم يستغرب الكثير من أبناء مدينة دير الزور الأمر، لأن "الدولة تعملها"، لكن البعض ظلّ على اعتقاده أنها مجرد إشاعة، فنحن نعيش في دير الشعّار.
دير الشعّار (الشعراء) هو اسم المدينة السوريّ قبل ما يقارب القرن ونصف، لكثرة الشعراء فيها. وكان شعرهم مكرّساً لمدح شيوخ العشائر للتكسّب. ولذلك، ومع بداية القرن الماضي، صار الأهالي يخجلون من ذلك الاسم. واليوم تستعمل هذه التسمية على نطاقٍ واسعٍ في الأحاديث اليومية بقصد السخرية، أو للدعوة إلى تكذيب إشاعةٍ ما، أو لوصف مساهمة الأهالي أنفسهم، بكثرة كلامهم، في قبض التنظيم على الكثير من معارضيه. ويزيد الأمور تعقيداً أن البعض يؤلف الإشاعات بغرض التسلية، ويقوم بمراقبة التطورات التي تطرأ عليها ومدى انتشارها وتصديقها.
في منتصف عام 2012 دعا عسكريون منشقون، بالاستفادة من أنظمة الجيش، إلى تشكيل كتيبةٍ خاصّةٍ لمكافحة الإشاعة، لما لها من أثرٍ معنويٍّ كبيرٍ في الحروب. لكن الدعوة لم تلقَ اهتماماً حتى لمست كتائب الجيش الحرّ ما للإشاعة من دورٍ أثناء حملة الحرس الجمهوريّ؛ فقد هرب الأهالي (بالثياب التي عليهم)، كما ألقى مسلحون كثر أسلحتهم في حاويات القمامة أو في المنازل المهجورة، أو لجأوا إلى دفنها والتسلل من المدينة عن طريق الجبل في الجنوب أو النهر في الشمال. وسرى اعتقادٌ بين الكتائب المتبقية وقتها أن راكبي الدراجات النارية -الذين نشروا خبر دخول الجيش إلى حيّ الجبيلة- هم أتباعٌ للنظام، وجرت مطاردتهم على هذا الأساس.
منذ حصار قوّات النظام للمدينة في نهاية 2012 وحتى تمدّد التنظيم، لعبت الإشاعة دوراً كبيراً في الحياة العامة، فقد تبنّى الإعلام الثوريّ ادّعاء القبض على مقاتلين إيرانيين في حي الجبيلة، واستهداف المدينة بالكيماويّ والعنقوديّ. كما استعملت في خضمّ المنافسة بين المجلسين العسكريّ والثوريّ، وفي انتخابات المجلس المحليّ، وبين المنظمات. وتبادل بعض أهالي المناطق الخاضعة للنظام والخارجة عن سيطرته إطلاق الإشاعات. هدفت الإشاعة عموماً إلى تشويه الخصم للاستئثار بالتمثيل أو للمنافسة على الدعم، أو لحساباتٍ عشائريةٍ وعائليةٍ ومناطقية. وعملت، من جهةٍ مقابلة، على رفع المعنويات وتلميع بعض الشخصيات وصناعة أساطير شعبيةٍ جديدة. وقد دارت الإشاعات -وبعضها له أساسٌ بالطبع- حول العلاقات المحرّمة والسرقة والاختلاس والعمالة للنظام والتحضير لمعارك وتحرير مناطق وحوادث خارقةٍ للمألوف على الجبهات.
أثناء هجوم التنظيم على دير الزور استعملت جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرهما الإشاعة للتجييش والحشد ودفع الكتائب لقتال التنظيم. فجرى الحديث عن قتله المنشقين، وسبي نساء المقاتلين، وتكسير أصابع المدخنين، وعلاقته المباشرة بالنظام، ونيته تسليم دير الزور له بعد تطهيرها من الكتائب. أما التنظيم نفسه فيستخدم اليوم الإشاعة على نحوٍ منظّمٍ للتخفيف من احتقان الأهالي وكسبهم أحياناً، كادّعائه إسقاط طائراتٍ، ولضبطهم أحياناً أخرى، كإشاعة فكرة وجود أجهزة مراقبةٍ للتجسّس على محادثات زبائن مقاهي النت.
ونظراً لغرابة الكثير من قوانين التنظيم وإجراءاته يصعب التمييز بين الإشاعات والنكات والقوانين التي يفرضها أو يزمع فرضها. فقد تناولت الأقاويل (تحريم السَلَطة لأنها تجمع بين الخيار وهو مذكّرٌ والبندورة وهي مؤنثة؛ منع كلاش الإصبع لأنه يفرّق بين الأصابع؛ منع من لم تنبت ذقنه من إطالة شعره لأنه فتنة)، والأولى نكتةٌ والثانية إشاعةٌ (قوية) أما الثالثة فحقيقة.
منع تنظيم الدولة استعمال التلفاز في أسواق المدن التي يسيطر عليها، "لأنه فتنة"، لكنه سمح ببيعه. ولذلك يبدو هذا المنع إجراءً ضمن سياسته لاحتكار المجال العامّ. أما بشأن منع التلفاز نهائياً فبالبحث عن أصل الخبر تبيّن أنه من خطبةٍ ألقاها مهاجرٌ في أحد الجوامع دعا فيها الناس إلى الطلب من أبي بكر البغداديّ أن يصدر هذا القرار!