بعد دخول تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى مدينة دير الزور، دخل معه نوعٌ جديدٌ من الأغاني لم يكن متداولاً في الماضي. ويرتبط هذا النوع، بشكلٍ أساسيٍّ، بالآلة الدعائية والشرعية للتنظيم.
تصدح اليوم، في الجزء الخاضع لتنظيم الدولة الإسلامية من مدينة دير الزور، أغانٍ (أناشيد) تمجّد الشجاعة والبطش وإراقة الدماء والانتقام. وتعدّ (أنشودة): (لنا المرهفات الغضاب البواسم/ لنا صيحة الحق حين التصادم) من أكثر الأغاني انتشاراً بين فئات المراهقين خاصةً والشباب عامةً. إذ إنها "أحدث أغنيةٍ للدواعش" كما يقول خالد، وهو شابٌّ يعمل في بقاليةٍ في شارع التكايا، لكنه لا يتورّع عن كيل الشتائم للتنظيم – في السرّ طبعاً- وفي كلّ مناسبةٍ، لأنه "خنق الناس وكشف حال سبيلهم" بعد أن توقفت المعونات والدعم. بالرغم من أن عناصر التنظيم هم الزبائن المفضلون لدى خالد -بسبب أحوالهم المادية الجيدة، وإقبالهم على الشراء دون مناقشة الأسعار- لكنه دائم التبرم بهؤلاء الغرباء الذين يضيّقون عليه ويسلبونه حريته الشخصية، كما يقول.
وبالعودة إلى الأناشيد، فقد لاحظ الناشط الإعلاميّ أحمد التشابه الكبير بين أناشيد التنظيم وأغاني الأحزاب القومية البائدة، مثل نشيد (دولة الإسلام قامت رغم أنف الحاقدين) المشابه لنشيد حزب البعث (يا شباب العرب هيا) من حيث السعي إلى تمجيد الأشخاص وتحويلهم إلى رموزٍ مقدسة. لكن أحمد، بالرغم من ذلك، لا يخفي "حبّه" لأنشودة (وين رشاشي) ذات اللهجة الخليجية، فيردّدها مستمتعاً بتقليد طريقة مؤديّها الطريفة، بعد أن أكمل أبياتها بكلماتٍ ساخرةٍ من تأليفه:
(وين رشاشي با أشعل النيران
أكلوا برنغلز شربوا بربيكان
باعوا الثورة راحوا لليونان...)
وفي نفس السياق يقول أبو عمر، وهو مطربٌ شعبيٌّ سابقٌ ومدرّس موسيقا في المدينة: "الموسيقا غذاءٌ للروح. وقد وظّفها التنظيم إيديولوجياً كما فعل البعثيون سابقاً. وهي في هذا المجال أداةٌ فعالةٌ تتخطّى الطرق الكلاسيكية في نشر الأفكار ومخاطبة عواطف الشباب".
لا يستعمل تنظيم الدولة في أغانيه الآلات الموسيقية (المعازف) لكنه يستعيض عنها بأشياء أخرى، كالكورس وجوقة المردّدين والصدى والمؤثرات الصوتية (الزئير وصوت الانفجارات والرصاص). ويركّز فيها على الجانب الحماسيّ الذي يحاول من خلاله استقطاب أنصارٍ جدد. كما تنتظم أكثر هذه (الأناشيد) على البحور الشعرية معتمدةً على اللغة العربية الفصحى، أو بلهجةٍ خليجية، لعرض أفكار ومنجزات التنظيم. وتزخر بالكلمات الغريبة (الضياغم، مناص، الطغام...) التي لا يفهمها خالد، مثل الكثيرين غيره، حتى من عناصر التنظيم نفسه.
هجر الناس في الوقت الحالي الأغاني الثورية التي رافقت المظاهرات وانتشار الجيش الحرّ، فقد "راح دورها" كما يقول أحمد. مع احتفاظ أغنية (يا حيف) لسميح شقير بمكانةٍ مرموقةٍ لدى كافة الأعمار والفئات الاجتماعية، رغم أن المزاج الشعبيّ في دير الزور يميل عموماً إلى النمط الغنائيّ العراقيّ، بحكم التقارب الجغرافيّ والبيئيّ، ويداعب الحزن الذي عرف عن الغناء العراقيّ هذا المزاج المحليّ. كما دفع "الهوى" العراقيّ ذاته الديريين، في مراحل الثورة الأولى، إلى إعادة إحياء بعض الأغاني التي اشتهرت في فترة حروب صدام، لكن مع تعديل كلماتها لتناسب الوضع الثوريّ السوريّ وحماسه، مثل (دكي يالراجمة ويا كاع ترابك كافوري). لكن، في الوقت ذاته، شهدت الذائقة العامة في دير الزور خلال السنوات الخمسَ عشرةَ الماضية بعض التغيّرات، إذ تعدّدت مصادر الأغاني الرائجة في المدينة، فدرجت الأغاني اللبنانية والمصرية والخليجية وأغاني الساحل السوريّ، بالإضافة إلى الفلكلور الفراتي الذي أعيد توزيعه ليناسب وتيرة الدبكة السريعة. لكن بعض الشباب لم يجد في كلّ هذا ما يلامس ذائقته ومشاعره، فظهر ميلٌ للأغاني القديمة المنتمية إلى الزمن الجميل (أم كلثوم وعبد الحليم ..) بينما تمسّك البعض بأغاني فترة الثمانينيات العراقية (ياس خضر وفؤاد سالم...).
الآن، وبوجـود تنظيــم الدولة، أصبح الاستماع العلنيّ إلى تلك الأغاني يودي بصاحبه إلى المساءلة، وذلك لحساب الأناشيد الجهادية. لكن، في النهاية، يعلّق أستاذ الموسيقا أبو عمر على ذلك مازحاً: "تجتمع النفوس على الموسيقا كما يجتمع الذباب على السكّر". فهل تصطدم النفوس بالواقع في حالة التنظيم؟