- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
الأخ المواطن أنا
لم أسمع يوماً أن هارباً التفت إلى الخلف، ولكن الأخوة المواطنين الهاربين من الحروب يلتفتون كثيراً إلى الخلف، وربما السبب في ذلك أنهم لا يهربون بالكامل، يتركون الكثير وراءهم، ويحلمون بالعودة إلى هذا الكثير. ولذلك أصبح للأخ المواطن مواطنان اثنان بعد أن قطع الحدود، أو قطعته الحدود: واحد في الداخل يتسلل كل ليلة إلى أحلامه، أو كوابيسه، ليأخذه في جولة بين الحواجز وتحت قصف المدافع والطائرات، وآخر يسمى لاجئاً، لا حواجز أمامه. لكن الرابط بين الاثنين بقي أقوى من كل الحواجز والحدود، والدليل أن أحلامه، وكوابيسه كذلك، لا تعترف بها.
نام الأخ المواطن "أنا"، ليلة 21 تموز 2012 في حي الشعار بحلب، على شكل مواطن، وعندما استيقظ على صوت طائرة الميغ مذعوراً، مرتفع الضغط، جاحظ العينين، نظر في مرآته فاكتشف أنه صار "إرهابياً" "قدّ الدنيا". وكعادة الأخوة المواطنين انتعل الأخ المواطن حذاءه دون جرابات، وهرول إلى الفرن لشراء ربطة خبز، فرأى عدداً من الأخوة المواطنين مصطفين في طابور. قال في نفسه: يبدو أن الأمن والأمان حقيقة راسخة، و ليس كذبة من كذبات الإعلام، وعندما التفت للبحث فوق أغصان شجرة مجاورة عن العصافير التي تزقزق، قصفت طائرة الميغ الفرن، وقتلت عدداً من الأخوة المواطنين المصطفين في الطابور.
قرر الأخ المواطن في اليوم التالي الذهاب إلى "المناطق الآمنة" لشراء ربطة الخبز، مرت السيارة على حاجز الجيش الحر، ثم على حاجز للقوات الكردية، ثم على حاجز النظام. طلبوا منه بطاقته الشخصية فكاد أن يعطيهم جواز السفر. لوهلة ظنَّ أنه قطع حدود دولة إلى دولة أخرى، خصوصاً وأن رايات أخرى، لم يعرف المواطن إلى أية دولة تتبع، كانت مرتفعة فوق الحاجز، لكن وجه عنصر الأمن العسكري، حذاءه الأسود، بندقيته، أكياس الرمل، والفوضى التي تمزج كل ذلك في خلطة فريدة، ذكّرته أنه ما زال في "الوطن"، وأنه "أخ مواطن"، فأعطى العنصر بطاقته الشخصية.
الأخ المواطن لم يصدق "هدنة العيد" في عام 2012، ولا في الأعوام التي تلته، ولله الحمد، و إلا لتم تشييعه كما شَيَّعَ ضحايا هذه الهدن على شريط قناة حلب الإخباري. علّق الأخ المواطن في خياله شعار "الموت غير قابل للتجربة" منذ اليوم الأول. فالنوايا الطيبة لا تنفع في الشوارع الفارغة على خطوط التماس، مع الموت الرابض بقناصته يتسلى باصطياد من يحاول أن يأخذ من بيته ملابس أولاده الشتوية، كجائزة ترضية لهم صبيحة العيد.
لاحقاً كان على الأخوة المواطنين أن يعبروا معبر بستان القصر جيئة وذهاباً بين عالمين مختلفين، وكان تجاوز هذا المعبر شيء يشبه الولادة بكل احتمالاتها، عليك أن تتحسس رأسك كل ثانية، لكن لا وقت لديك لتحسس رؤوس الآخرين الذين يسيرون بالقرب منك، عندما تسمع صوت الرصاصة.
وعندما يصل "أخي المواطن" إلى الجانب الآخر ينتظره الجلادون أنفسهم، الذين كان بعضهم يدقق في هوية رأسه من الأعلى، إن كان قابلاً للنسف أم لا، ليحددوا منسوب وطنيّته من ملامح وجهه، "هل أنت معنا أم ضدنا؟"، وبعد التدقيق في بطاقته الشخصية، وبعض الأسئلة والشتائم غالباً، والأسئلة التي تشبه الشتائم، يمنحونه سمة الدخول إلى ما يسمونه "المناطق الآمنة".
لقد ولدتَ من جديد أخي المواطن، ولكن حبذا لو تحسست رأسك مرة أخيرة قبل أن تكمل طريقك، فهناك ولادة أخرى كان عليه أن يولدها على التيل التركي، يومين أو ثلاثة أيام نصف ساعاتها في الوحل أو الغبار، ونصفها الآخر في الترقب والانتظار، ومتابعة أضواء سيارات الجندرما التركية في الليل، وأصوات الرصاص والكلاب، وإشارات المهرب وهو يقول له: اركض ولا تلتفت إلى الخلف.
بعد أربع سنوات قطع الأخ المواطن أوربا من اليونان حتى ألمانيا، دون أن يطلب أحد منه ما يثبت هويته، ووجد حينها وقتاً للتساؤل عن سبب شغف المواطنين بالحواجز والحدود وخطوط الفصل. فإن لم تُرسم الحدود عندنا بخط من الأحجار، وبعض قطع الحديد والخشب، رسمناها بحفنة تراب، أو حتى بقلم تخطيط أو بخاخ دهان. وإن لم نستطع، رسمناها كخطوط وهمية في خيالاتنا الجمعية، بحيث يراها الجميع ولا يراها أحد. والمشكلة مع الخطوط الوهمية أنها لا تقدم تحذيراً لمن يتجاوزها، وعليه أن يمتلك من الفطنة ما يجعله يشعر بوجودها، حتى وإن لم تكن موجودة، وإلا تلقى رصاصة في رأسه، والرصاصة التي تخترق الرأس لا تكون تحذيرية للأسف.