- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
ابن بطوطة الديري
كان يوماَ مريراَ عندما قال لهم عناصر تنظيم داعش إنهم سوف ينسحبون من مدينة الميادين، وسوف يدخلها جيش النظام، و«آخرون نشاهدهم لأول مرة في سورية». بدا الحزن واضحاً على التركتور «الغالي»، وانزعج من عناصر التنظيم الذين كانوا يقاسمونه عمله طوال السنة بحجة الزكاة، ولا يقولون له جزاك الله كل الخير، ولا يرشقون عليه الماء البارد في حر الصيف، يروي صاحب الغالي حكايته، في محاولة للحديث بلسان حال تركتوره. بعد ما شاهده على نشرات الأخبار من حرق للجرارات الزراعية والسيارات والمحاصيل في كل قرية يدخلها النظام السوري والمليشيات الشيعية المساندة له بحجة أن أصحابها «دواعش». قرر الغالي وصاحبه، وخمسون شخصاَ آخر، الهرب بأرواحهم من الموت وحرق محقق. «حتى براد شاي ما خذينا معانا، طلعنا بهدومنا اللي لابسينها من القصف».
شق الغالي طريقه وعلى ظهره وجع أكثر من خمسين شخصاَ من شيوخ وأطفال ونساء، بعضهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، وثلاثة رجال تناوبوا على قيادته في حر صيف العام الماضي. وصل الغالي الذي يحمل على ظهره سورية مصغرة إلى مدينة البوكمال، عبر التنقل بين القرى، عله يجد أرضاَ سماؤها خالية من آليات تشبهه، ولكنها تؤذي الناس وتقصفهم. وعلى حافة جسر الرمانة في العراق حار الغالي وصاحبه في الوجهة الأخيرة التي يجب أن يحطوا رحالهم فيها، حيث كانت الفكرة أنه (طالما نحن في مناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة فسوف يلاحقنا الموت)، وكان القرار عبور الجسر، ثم التوجه إلى قرية الباغوز التي استراح فيها الغالي، وغسل نفسه بمياه الفرات على ضفاف النهر، ليكمل طريقه نحو مناطق قوات سورية الديمقراطية.
استمر بالسير والعجاج يضرب وجهه، ووجه من يحملهم على ظهره، في طريق لا توجد فيه من الآليات سواه، وكأنه ومن فوقه في تلك البرية لا يوجد غيرهم. «چنا نفقد الطيارة إن ما جت، تا نتونس بيها، لانو مابي حدا بهالطريق غيرنا. وبنفس الوكت العجيان چانم يخافون منها»، يروي لي صاحب «الغالي» عما جرى لهم قبيل وصولهم إلى قرية طيب الفال، حيث نقطة عبور في حقل ألغام. حاول الغالي اجتيازها دون أن يستغله جمع المهربين، ولكن خوفه من الألغام ومن الدعس على أحدها منعه، فقرر أن يعطي المهرب مبلغ 120 ألف ليرة سورية حتى يستطيع العبور إلى حيث أول حاجز لقوات سورية الديمقراطية. «كل السيارات عدن إلا الغالي يمشي على مية مهلو... والله كأنه حن للميادين، وما يريد يبعد عنها».
ظننا أننا وصلنا إلى بر الأمان: عند أول حاجز لقوات سورية الديمقراطية تم اتهام الغالي بأنه عميل، ويريد تفجير نفسه على أول حاجز لقوات قسد، فقام عناصر قسد باصطحاب الغالي، ومن معه، إلى مخيم المبروكة للتأكد منه ومن هويته الحقيقة، حيث تم حجزه وحجز من هم على ظهره في المخيم. بعد التأكد من الأوراق الثبوتية للغالي، وتصويره والتأكد منه، تبين لعناصر قسد أنه ليس داعشياً، ولكنهم منعوه من تجاوز سياج المخيم إلى الحسكة، أو دير الزور أو الرقة، إلا بورقة كفيل كردي حصراً! الغالي الذي كان يشق المسافات الطويلة، ويسير في أرضه ذهاباَ وإياباً، ويحرث الأرض، بات في مخيم المبروكة لا يستطيع السير كيلو متر واحد!
تملل عناصر قسد وسياراتهم من بطء سير الغالي بالقرب منهم، بعد إن اتخذ وجهته إلى ريف حلب الشمالي، حيث الجيش الحر، وكلما يسبقون الغالي مسافة عشرة كيلو مترات ينتظرونه حتى يصل، ويطلبون منه الإسراع، ولكن الغالي قاطعهم بما يسر خاطرهم: «أطمنم ما رح أرجع ولا اشتقل بمناطقكم… تركنا لكم إياها، لنشوف تاليها معكم. مو عيب أني أخذ كفيل ببلدي... عجل أني بالسعودية!؟ فرح عناصر قسد، وعادوا بسيارتهم إلى المخيم، بينما وصل الغالي مدينة جرابلس، ثم حط الرحال بالغالي في مدينة الباب، لكنه لم يجد منزلاَ للإيجار بسبب غلاء الأسعار، ووجد من دكان مدمر تنبعث منه رائحة خضروات مكاناَ آمناَ للنوم فيه (في سوق الهال القديم). ضاقت بالغالي الدنيا، ولم يعجبه الوضع في مدينة الباب «كثافة سكانية، وغلاء بالأسعار، ولا أراضي زراعية للحصاد فغالبيتها ملغمة.»