- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
أم صالح الحلبية:«لن أصالح! وبذوري ستملأ الأرض..»
هناك بيوتٌ لا تعترف بالطفولة مبكراً، ولا تفشي بحبها لأبنائها. تشاهدهم يكبرون في مساحات الغرف الضيقة، وتزرع فيهم سلوك الرجولة منذ خطواتهم الأولى. نساؤها لا تنحني إلا لترفو أحلام صغارها، ورجالها كشجر الغار.
في حيّ الحيدرية الشعبيّ، شرق مدينة حلب، كان منزل أم صالح، ككل بيوتات الحيّ العشوائيّ، يحتل مساحةً من الطريق الترابيّ الذي تغيب عنه كل الخدمات ويسكنه دفء العائلة المكوّنة من أربعة شبانٍ وثلاث فتيات، كلهم متقاربون في السن.
أم صالح امرأةٌ خمسينيةٌ مليئةٌ بالقوة والحنان في آنٍ واحد. تنقلت منذ زواجها بين بيوتٍ كثيرة، كحال معظم السوريين في رحلة البحث عن منزلٍ لا يستنزف إيجاره معظم دخل زوجها، إلى أن حطّ بهم الرحال في هذا المنزل المؤلف من ثلاث غرفٍ وحديقةٍ صغيرة، تسميها «الحاكورة».
أتعبتها الحياة ولكنها، معتمدةً على موروثها الفطريّ في الصبر والتسليم لله تحت عنوان «البركة»، كانت تصحو قويةً كعادتها كلّ يومٍ لتعارك الحياة مع زوجها وأطفالها، فهم كل ثروتها كما كانت تقول.
استعارت أم صالح من ذاكرتها شكل الطريق الترابيّ، وكيف كانت تبدأ فجراً مع نساء الحيّ بكنسه ورشّ الماء عليه فيبدو كلوحة، ثم يملأ الأطفال الشارع ضحكاً ولعباً وبكاء. قالت: «مشوا على كل رصيفٍ في هذا الطريق». أضاء وجهها وهي تستعيد فرح طفولتهم وتستحضر ما صار عصياً على العودة، فهي تعرف أن الزمن لا يعود إلى الوراء.
«كانوا صغار» عندما دخل الجيش الحرّ إلى مدينة حلب في آب 2012. الكبير صالح كان في الجامعة. كنت أنظر في وجهه حين يدخل إلى البيت، وكنت أعرف أنه شارك حتماً في المظاهرات التي كانت أخبارها تتوارد من نساء الحيّ في جلسات الرصيف. من سيخرج إن لم يخرج صالح! منذ بدأ الحديث عن المظاهرات في آذار 2011 تبدل طفلي، صار أكثر قوةً وصلابة، وباتت ملامحه تشي بأن حدثاً كبيراً قد استقرّ في قلبه.
كنت أسترق السمع إلى مكالماته الهاتفية مع أصدقائه، ويتسارع قلبي عندما يحاول التمويه بكلماته، فيستبدل بكلمة «مظاهرة» جملة «متى سيبدأ العرس؟». لا أعرف إن كان يحاول التخفيف من خوفي عليه ولكنّ ما كنت أعرفه أن خطوط الهاتف مراقبة، و«حتى الحيطان لها آذان» في بلدٍ يحكمه عناصر الأمن. في الحارة كان الكلام عن حاجز «طريق الباب» القريب وكيف اعتقل الكثير من الشباب. كانت التهم جاهزة، وكانت الأمهات تبكي أطفالها، أما الرجال فاكتفوا بالسكوت. لا أحد يستطيع التوسط عندهم ولا حتى السؤال عن ابنه الذي اعتقل. «كان الخوف مزروع بكل مكان، والانتظار والدعاء هو كل اللي طالع بإيدينا».
كان البرد يحزّ قلبي عندما تراودني فكرة اعتقاله، ولكني لم أكن أحاول إيقافه ولا حتى سؤاله. «سلّمته لله»، فقد كنت أعرف أني لن أستطيع منعه. كنت أكتفي بتفتيش ثيابه التي أُصرُّ على غسلها عند عودته والاطمئنان إلى إزالة كل الأدلة التي توحي بأنه كان هناك، أشمها وأضمها إلى صدري دون أن يراني.
إخوته الثلاثة كانوا صغاراً، أو هكذا ترى الأم أطفالها مهما كبروا. أصغرهم علي كان في السادسة عشر من عمره، لم يخطر في بالي أنه سيكون شهيدي الأول.
كان هادئاً وجميلاً. كبر في غفلةٍ مني وانتظم في صفوف الجيش الحرّ. ليس لدينا خيارٌ آخر، «كل حدا مات له أخ أو صديق، والشباب اقتنعوا بالثورة وعرفوا أنو النظام ما رح يسقط بالمظاهرات اللي كان كل يوم عبيروح فيها أكثر من شب، يا بيعتقلوهن يا بيستشهدوا. وكان لازم الشباب يدافعوا عن حالهن وبلدهون، هاد حقّ وما منقدر نوقف بوجهون».
في شباط 2015 استشهد علي في معركة صد قوات النظام عن قرية حردتنين في الريف الشماليّ لمدينة حلب. جاؤوا به عريساً إليّ. وقتها فقط، حين لمست وجهه البارد، أدركت أن ذقنه قد اكتملت.
كان شتاءً قاسياً، قالت أم صالح وهي تنظر إلى قطعة الأرض الصغيرة المجاورة لمنزلها، التي كانت تزرع فيها بعض الخضراوات. حرّكت يدها وكأن الكلمات تجمدت على شفتيها ثم قالت: «ربما لو كان حياً لما استطاع النظام أخذ الطريق الذي رواه بدمه».
اختنقت بحجم الخذلان واللاجدوى في حلقها. ربما شعرت أن استشهاد علي صار سدىً بعد أن استطاع الأسد السيطرة على الطريق بين حندرات والزهراء، مروراً بحردتنين ورتيان، في شباط 2016.
«هل هي مصادفةٌ أن يؤجل استشهاد علي تلك السيطرة سنة كاملة؟». هي المرأة التي لا تحفظ التواريخ صارت تهتم بنشرات الأخبار ومناطق الصراع وأخبار المعارك، تفرح لتقدم الثوار وتلعن النظام وحلفاءه. صار لها ثأرٌ شخصيّ.
نشأتُ في قريةٍ صغيرةٍ بالقرب من اعزاز. كان لدى والدي أرضٌ كبيرة، كنا نزرع فيها كل شيء. أرادت أم صالح أن تخرج من ذاكرتها: «إن سلّم الله هذه الأرض ستعيننا على ويلات الحصار». منذ سيطرة النظام على طريق الكاستيلو في آب 2016 منع حتى الهواء من الدخول إلى أحيائنا الشرقية. الأسواق شبه فارغة. قالت لي جارتي إنها ذهبت إلى السوق فلم تجد إلا بعض الحشائش والباذنجان، كيلو الباذنجان بـ750 ليرة. منذ استشهاد عبدو لم أذهب إلى السوق.
نظرتُ إليها، للحظةٍ رأيتها شاخت، كل التواريخ عندها ارتبطت بالفقدان.
انتظرَتْ هنيهةً، تنفّستْ ثم أكملت: عبدو كان أضخم أبنائي. الثالث بينهم. «شاب بيعبّي العين». كان مع الفوج الأول من الجيش الحرّ. هو أكبر من علي بسنةٍ واحدة. استشهد يوم عرسه. كنت أنوي تزويجه في ذلك اليوم من تشرين الثاني 2015، ولكنه حين سمع بتقدم داعش نحو قرى اعزاز في الريف الشماليّ قرّر الذهاب إلى هناك مع أصدقائه. «كان جندياً بحق». لم أفلح في تأجيل ذهابه، كان على موعدٍ مع الموت. لم يفلح دعائي بعودته سالماً. عاد يحمل جراحه، أصابته طلقةٌ في عموده الفقري. أسعفوه إلى تركيا، بقي هناك شهراً كاملاً في المشفى. لا أعرف كيف وصلتُ إلى تركيا، قطعت الحدود قريباً من اعزاز، مشينا لثلاثة أيامٍ حتى استطاع المهرّب إدخالنا. لم أكن أشعر بالتعب، القلق على عبدو كان هو ما يسيّرني. وحين وصلت رأيته، كان ممدداً على سريره، وقد أحسّ بي. راودني حلم يقظةٍ أني سأعود معه إلى بيتنا، سأخفيه بين جنبيّ. بدأت صحته بالتحسن بعد إجراء جراحةٍ له. خارج غرفته في حديقة مشفى كيليس، كنت مع ابني الأكبر صالح، الذي كنت قد أرسلته إلى تركيا مع أطفاله بعد استشهاد علي، كان على أحدنا أن يبقى حياً. أتعرف؟ منذ شهرين صار لديه طفل أسماه علي كعمّه. أرجو أن يكون كذلك، ويأخذ حظه في الحياة. بعث لي صورته، كم تمنيت أن أشمّ رائحته. هو من يستحق الحياة، هو من سيكمل.
خرجت المترجمة التي تعمل في المستشفى للبحث عنا. حين رأتنا قالت: عبدو يريد عروسه، هو ينادي باسمها. ذهب صالح فأحضرها من المنزل. لقد أتت معنا حين وَصَلَنا خبر إصابته. في المشفى كتبت كتابه على عروسه، لكن استشهاده كان أسرع من فرحي بأولاده. دفنته بجانب أخيه الأصغر علي. «الأسد وداعش وجهان لعملة واحدة»، كلاهما قتل حلم صغارنا، وكلاهما لا يأبه لقلوب الأمهات.
«هذه الحرب أكلت بذوري»، قالت لي أم صالح في رسالةٍ صوتيةٍ على الواتس آب وهي تحدثني عن بذور الحديقة التي زرعتها بعناية.
هذا الشارع كان يضجّ بالأطفال. منذ أن تقدم النظام بالقرب من دوار الجندول نزح معظم ساكنيه. معظم البيوت هدمها الطيران. في كل بيتٍ شهيدٌ وربما أكثر. لم يعد الموت يخيفنا، لكن الناس نزحت خوفاً من الاعتقال. هناك من يتحدث عن اقتراب قوات الأسد من الحيّ. بقيت أنا وابني مصطفى هنا، قررنا عدم النزوح، أنا لن أترك بذوري.
بدا الحديث عبثياً وأنا أحاول التركيز لاستحضار وجه الأم التي زرعت بذورها في كل مكان، تستعيد طفليها الشهيدين وصورة بكرها اللاجئ وتكتفي بانتظار ما يسدّ الرمق. ولكنها لم تكن أبداً محطمةً مثلي وأنا أستمع إليها.
منذ أيامٍ تواصلت معها بعد أن غادرتُ المدينة منذ أشهرٍ قليلة. أردت أن أسالها عن الهدنة التي أعلنتها روسيا وقوات الأسد، وأُخبرها أن باستطاعتها الخروج من المدينة إن أرادت.
كانت الإجابة كما تخيلتها، ولكن بُعد المسافة حماني من نظراتها: «أنا لن أصالح. في كل بيتٍ هناك ثأرٌ شخصيّ. لم تعد القضية مسألة تغيير نظام، ولم تعد كلمة حرية تكفينا».
«نريد لأبنائنا الراحة في قبورهم. نحن لا نملك الكراهية، ولكننا لن نستطيع نسيانهم ولا خيانة دمهم. سننتصر، كلي ثقةٌ أن بذوري ستملأ هذه المدينة».
«لم يعد هناك ما نخسره، كل ما تبقى لنا «شوية كرامة». أتريد أن نسلّم أنفسنا للقاتل؟! ستبدأ المعركة قريباً. هذه حلب أم الشهداء والحضارات، لم يفلح أحد في اقتلاعها سابقاً ولن يفلح الروس والأسد اليوم. هذه البلاد لنا».
الشقيقان علي وعبدو قبل استشهاد الأول (يمين) بساعات