أبو محمد، في الخمسينات من عمره. موظفٌ في جمعيةٍ خيريةٍ بحلب، ومعتقلٌ سياسيٌّ سابق.
كان ابنه محمد، وشقيقه التوأم أحمد، في الثامنة عندما انطلقت الثورة. كانا يهرعان إلى شرفة المنزل ثم يصرخان: بابا.. بابا.. تعال شوف المظاهرة. كان عشرات الفتية والشباب يمرّون في الشارع في حيّ الخالدية بحلب وهم يدقون الطبل وتصدح حناجرهم بتلك الكلمات الخالدة: يلا ارحل يا بشار، الشعب يريد إسقاط النظام، سوريا بدها حرية. كان الزهو والفخر والسعادة الغامرة تعبر جسد أبو محمد؛ لقد حصل ما حلم به طوال عمره.
في السنة الثانية للثورة ترك عمله وغادر حلب، مع عائلته المؤلفة من زوجةٍ وستة أطفالٍ، إلى مسقط رأسه في قريةٍ وادعةٍ بمحافظة إدلب. بعد أربع سنواتٍ كانت اثنتان من بناته قد تزوّجتا، ورزق بطفلةٍ صغيرةٍ –لولو- هي أجمل ما حصل الآن. كانت الأيام الأخيرة من السنة الرابعة للثورة قاسيةً ومدمّرة: انتهت الإغاثة، لا مورد، لا عمل. يلاحقه هذا السؤال عشرات المرات يومياً: ماذا لو طالت الثورة سنواتٍ أخرى؟ كيف ستبقى أغلبية البشر على قيد الحياة؟ وصل إلى حافة الجنون. يتابع السياسة يومياً، ويعرف أن الأمور ذاهبةٌ إلى مدىً مفتوح. كان الوضع المعيشيّ كارثياً، ولا أمل في حلٍّ قريبٍ أو في المدى المنظور. ذات صباحٍ مشمسٍ من أيام الشتاء الأخيرة، وكان جالساً أمام البيت على الحشائش الخضراء، سمع حواراً بين أولاده:
ماما.. قولي لأختي تحطّ لنا الفطور. كول صندويشة دبس بندورة مع الشاي، أنت وأخوك، وروحوا عالمدرسة. قالت راما: ما بقي دبس بندورة. طيب، زيت وزعتر مع الشاي. أجابت راما: ما في خبز. أحمد، روح جيب ربطتين خبز من عند خالك بالدين. خالي ما عنده خبز، الفرن مسكّر لأنه النظام ما رضي يبعت الطحين. قطبت الأم جبينها وقالت زاجرةً الطفلين: روحوا عالمدرسة بدون فطور، ووقت بترجعوا الظهر منكون عملنا خبز عالصاج. مشى محمد إلى المدرسة وعيناه دامعتان، وكان وراءه شقيقه أحمد الذي راح يغني: يلا ارحل يا بشار. صرخت به راما: تضرب أنت وبشار والثوّار. فتدخلت منار ساخرة: هلق بيقولوا عنّك شبيحة! كان أبو محمد يسمع المحادثة ولا يتدخل. كان ذاهلاً عن كلّ شيءٍ لأنه كان يفكر في إجابةٍ عن سؤالٍ يلحّ عليه باستمرار: كيف يمكن أن تستمرّ الثورة وسط هذا الموت البطيء؟!!