- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
أخي المعتقل وبرنامج «يا حرية»
في كل مرة كنت أحاول فيها إكمال الصور التي سربها «القيصر» لآلاف جثث المعتقلين في سجون الأسد كنت أقف عند رقم لا يتجاوز الخمسين، دائماً كنت أبحث عن صورة لأخي المعتقل، على الرغم من يقيني بأن ذلك لن يحدث، فالصور المسربة كانت قبل اعتقال أخي بأشهر، ولكن شعوراً ما كان يدفعني للبحث والتوقف. كأن أمتلئ بالحقد والموت معاً، أو الخوف فعلاً من فرضية إيجاد صورة له بين تلك الصور. المشهد تكرر ثانية في برنامج «يا حرية» الذي يُعرض على تلفزيون سوريا. هذه المرة لم أستطع التوقف، ولكني مُلئت بكل تلك المشاعر معاً.
تلك التفاصيل الصغيرة في وجوه المعتقلين السابقين، والخوف الساكن في ابتساماتهم، والدمعة التي لا تكاد تفارق أعينهم اللامعة، لم تفلحْ في إخفاء الخوف من فتح جرح الذاكرة. أن تعبث بالذاكرة من خلال استحضار ما يُوحي بالأمل، والحديث عن ساعات من الترقب والانتظار، وكيف يتساوى الموت والحياة ليغدو الانتحار فكرة ملحة مسيطرة للانتهاء من عذابات الجسد والروح. أن تبتسم بهدوء أو أن تشير بيدك لتتوقف عن المكابرة على الألم، أو لتستعيد بعض أنفاسك لتكمل بقسوة ما يريحك ويقتلنا، هو كل ما استطعت أن ألتقطه، لأضغط بيدي على زر الإيقاف أمامي. أخلع نظارتي. أمسح عيني. ألتقط أنفاسي أنا أيضاً. أشتم البرنامج ومعدّيه وضيوفه. أبكي وحيداً. أتخيل أخي في تلك اللحظة بمشهد تمثيلي كالذي يُعرض على الشاشة، يبحث عن «بلاطتين» ليريح جسده المتعب بعد حفلة تعذيب كالتي تحدث عنها الضيوف. أعدّ شقوق ظهره من أثر الكبل الرباعي. نسيت (قال أحدهم أن حفلات التعذيب قد تغيرت، واستبدل الكبل الرباعي بـ قشاط دبابة ينتش من لحم المعتقلين، بعد أن يلتف على ما تبقى من جلد يستر عورة عظامهم).
أخي الذي اعتقل لأسباب لا تشبه اعتقال ضيوف البرنامج، ولكنها تتقاطع معها في جميع المفاصل (الأسد الابن بدلاً من الأب –غياب التهم والمحاكمة –طغيان السجن والسجانين –طريقة الاعتقال) والأهم من ذلك هو أن كل ذلك يحدث في سوريا منذ ثمانينات القرن الماضي دون رادع. ففي أيلول 2014 تم إنزال أخي من حافلة كانت تقله وأطفاله في حلب، قال عنصر الحاجز لزوجته «ساعتين ومنرجعو، تشابه أسماء، ولازم نتأكد».
ترتجف يدي وأنا أضغط على زر المتابعة، (الأبوّة لا تأتي فجأة، كيف يمكن أن تخبر طفلك أنك والده، الأبوة تشرب كالماء)، أتوقف مجدداً. ما الذي سأقوله لطفلة أخي التي تركها بعمر السنتين، كانت تناديني بعمي «بصل» في محاولة منها لاستخراج أحرف اسمي الصعبة. هي الآن في الصف الأول، ولا زيارات تسعفها لمعرفة والدها، ولا نحن استطعنا أن نعرف له طريقاً حتى هذه اللحظة. تراها ستعرفه، أم أنها ستتركه بعد أن تسأله ذلك السؤال المقصلة الذي أخبرنا به أحد الضيوف (أنت بابا؟)، وحين يهز رأسه بالإيجاب، ستنزل من حضني وتلعب في باحة السجن المقابل لحضور والدها غير آبهة بما فعلت به طفولتها، وما فعل بطفولتها.
السؤال الذي رافق الحلقات الخمسة للضيوف فيما إن كانوا يريدون الانتقام من سجانيهم، والإجابات الهادئة كانت تدور في فلك (عدم الحقد، والمطالبة بالعدالة). تعمّني الفوضى والغضب وأنا أتشارك معهم حالة الطهر تلك، نحن حاقدون وغاضبون ونريد الانتقام من السجن وحاكمه وقضاته وضباطه وسجانيه، العدالة هي أن نفعل، قلت في نفسي وأنا أجيب عن السؤال كما لو أنه طرح عليّ. لا أعرف حقيقة ماذا كان أخي سيقول لو سئل عن ذلك، ولكن الأكيد أنّا (وأعني نحن عائلات المعتقلين أمهاتهم وإخوتهم وأبناءهم وزوجاتهم) نملك الحق في الإجابة أيضاً عن ذلك السؤال، ولنا الحق في الانتقام والحقد والمحاسبة.
رفعت صوت «اللابتوب» وتوجهت نحو النافذة لأدخن سيجارتي الأخيرة مع آخر الحلقات التي أنهيتها في ليلة واحدة، كان السؤال الذي يُلح عليّ: ما الداعي لهذا البرنامج؟ ثم لماذا تقتلون شعورنا المتخيل أن من نحبهم بخير؟ لماذا تؤذون قلوب الأمهات اللواتي لم تجف دموعهن بعدْ، وتنكؤون جراحهم التي لم تُشفَ، وتختبرون صبرهن؟
هو التوثيق لإجرام الأسد وعصابته، وكتابة سرديات من الألم لا تنتهي عن انتهاكاته، أعتقد أن السوريين ليسوا بحاجة إلى ذلك، هم يقيناً يعرفون ما يحدث، ويُحاولون طرد شبح الفكرة كل مساء عن وسادات نومهم.
حين خرج جارنا أبو مروان من المعتقل بعد عشرين سنة قضاها هناك بتهمة الانتماء للإخوان المسلمين، بقي صامتاً أبداً. كلما حاولنا استفزازه بالسؤال (وكانت الثورة قد بدأت وحاجز الخوف قد انكسر) كان يجيبنا بالصمت، ويكتفي بالنظر في وجوهنا لبرهة علّه يستعيد قدرته على الكلام. تخونه حنجرته، ويُطرق برأسه إلى الأرض، ثم يصمت.