- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
آثار منبج في مهبّ كلّ أنواع الباحثين عن الربح
لوحة فسيفساء بيزنطية من قلعة نجم في منبج
مدينة منبج بريف حلب، والتي تتربّع فوق أهمّ الحضارات القديمة، تُسلب وتُنهب آثارُها بطرقٍ ووسائل متعددة، دون الاكتراث والاهتمام الفاعلين من جميع الأطراف الداخلية والهيئات والمنظمات الدولية.
يعود أقدم ذكرٍ لمنبج إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وكانت تعدّ أقدم دار ضربٍ للمسكوكات في المنطقة، كما اعتبرت نقطة عسكرية وتجارية هامة، في العصرين الرومانيّ والبيزنطيّ. وكانت مركزاً دينياً هاماً، فقد بني فيها معبدٌ لربة المدينة "أتارغاتيس"، اعتُبرَ من أكثر المعابد قداسةً في تلك الفترة. وكانت مركزاً هاماً لفن النحت الذي تميّز بمفهومٍ جماليٍّ محليٍّ تأثر بالفنون السورية وخاصة الفن التدمريّ.
منذ سنتين تستمرّ عمليات الحفر غير الشرعيّ بحثاً عن الآثار في هذه المدينة. فعند سيطرة الكتائب المقاتلة عليها كان الحفر يجري بشكلٍّ سرّيٍّ من قبل بعض الأهالي، خوفاً من الهيئة الشرعية، أو من إحدى الكتائب التي كانت تقوم بمصادرة الآثار بحجة حمايتها، ويقال إنها كانت تبيعها فيما بعد. وبعد سيطرة ما يعرف بـ"الدولة الإسلامية" أصبح الحفر بشكلٍّ علنيٍّ، لأن هذا التنظيم يسمح بذلك.
ويتم البحث والــــحفر بـــــطرقٍ متعددة، منها مثلاً اللجوء إلى من يدّعون أنهم خبراء في الآثار. ودخل المشهد أيضاً أشخاصٌ يدّعون معرفة الإشارات والرموز وتحليلها، وما يدلّ عليه كل رمزٍ منها. ولحق بهم المشعوذون الذين يدّعون التعامل مع الجنّ ومعرفة أماكن وجود (الطماير)، وهو المصطلح الشعبيّ الذي يعني دفائن القطع الذهبية. وقد روي أن أحد أصحاب البيوت، الذي يبعد عشرين متراً عن النهر الجاف الذي يمرّ من المدينة، اعتمد على كلام هؤلاء الأشخاص، فبدأ بحفر دائرةٍ قطرها يقارب المتر في منزله. وتضاربت آراء الخبراء والمشعوذين، فهذا يأمر بالحفر يميناً وذاك يساراً، حتى انتهى بنفقٍ يصل طوله إلى 72 متراً. وتمّ تمديد شبكة إنارةٍ على طول النفق، واستخدمت في حفره (كومبريسرات) كهربائية. وبعد كلّ هذا التخريب والتشويه لم يجد صاحب البيت سوى بعض الكِسَر الفخارية وبعض العظام التي تعود لهياكل قديمة. ولكن الضرر الذي نتج عن هذا العمل كان جسيماً، فقد هُشمت قنوات مياهٍ أثريةٌ على عمق مترين من الحفر، وأجزاء كبيرةٌ من خزّانٍ أثريٍّ على عمق أربعة أمتار.
وهناك طريقةٌ أخرى، تُستخدم على نطاقٍ ضيق، وهي الخرائط القديمة التي تدلّ على وجود (طماير) في مكانٍ معين. وقد روى أحد أهالي المدينة أن شخصاً قدم من ريف الأتارب، يحمل معه خريطةً تدلّ على قطعٍ ذهبيةٍ موجودةٍ تحت قبر الشيخ عقيل داخل جامع الشيخ نفسه، والواقع في سوق المدينة. وقام هذا الشخص باستئجار منزلٍ يبعد عن الجامع 500 متر، وبدأ بالحفر الذي لم يكن هذه المرّة عشوائياً بل وفق الخريطة. ووصل الرجل إلى المكان الذي يقصده، ولكنه لم يجد القطع، فهناك من سبقه إليها. ويذكر أنه بعد دخول "الدولة الإسلامية" إلى المنطقة قام مقاتلوها بنسف القبر.
وأصبح بعض الأشخاص مسلحين بأجهزةٍ حديثةٍ تستخدم للكشف عن المعادن، وأجهزة تصويرٍ عن طريق الأشعة تكشف ما طُمِرَ لعمق 15 متراً. ومبدأ عملها قريبٌ من جهاز (الإيكو)، وأجهزة كشف الفراغ. ومؤخراً قام تنظيم" الدولة الإسلامية "باستخدام أحد هذه الأجهزة قرب سور المشفى الوطنيّ، وتمّ العثور على العديد من القطع والتماثيل الذهبية، التي لم يعرف شيءٌ عنها.
وهناك بعض الحالات التي سُجلت عن أصحاب بيوتٍ قاموا بالحفر وبعد عدة أمتارٍ اصطدموا بجدرانٍ حجرية، فتوقفوا عن المتابعة. ومن المرجّح أن تعود هذه الجدران إلى العصر الرومانيّ أو البيزنطيّ. وقد قال بعض الأشخاص إن هناك العديد من اللقى الأثرية والتماثيل التي تم استخراجها من تحت بيوت بعض الأحياء القديمة من المدينة.
في ضوء ذلك يمكن القول بأن أعمال التنقيب العشوائيّ وتخريب واستخراج الآثار، المستمرّة منذ سنتين وحتى يومنا هذا، يتطلب إحصاؤها وتوثيقها عملاً جدياً وشاقاً جداً، وتجنيداً لجهود المهتمين بالآثار لوقف هذا النزيف الحضاريّ.
والجدير بالذكر أن الوسائل التي ذكرناها لا تقتصر على منبج فقط، وإنما تستخدم أيضاً في جميع المدن والمناطق والتلال الأثرية التي غابت عنها السلطة وانعدمت القوانين. ولذلك نناشد جميع الجهات والمنظمات التي تهتم بالتراث أن تهبّ لنجدة هذا الإرث المشترك للبشرية. وأن تصلوا متأخرين خيرٌ من أن لا تصلوا أبداً.