جانب من أعمال الحفر | خاص عين المدينة
آثار دورا أوروبوس (الصالحيّة)
تتعرّض لأعمال التنقيب غير المشروع
بعد محاولاتٍ عديدةٍ تمكنت "عين المدينة" من التسلل بين لصوص الآثار في مواقع الحفر والتنقيب في آثار الصالحية، كما تعرف في المنطقة... منظرٌ لا يصدّق أن تستباح "دورا أوروبوس"، وفي وضح النهار، في جريمة نهبٍ مستمرّةٍ منذ عدة أشهر، ومن دون أن يهتم بإيقافها أحد... عشرات المجموعات تقوم بالحفر والتنقيب كلّ يوم، إذ يبدأ العمل بعد طلوع الشمس ويتابع البعض الحفر خلال الليل.
ســـبق لنا أن عرضنـــــا لتاريـــــــخ دورا أوروبوس في العدد 3 من هذه المجلة، واليوم نعود إليها لنرصد ما تعرّضت له من تخريبٍ على يد بعض العابثين. ففي البداية سُرقت التجهيزات المادية التي تعود إلى بعثة التنقيب التي كانت عاملةً في الموقع، وسُرقت مقتنيات المعرض الموجود فيه، وهي ليست قطعاً أصلية، بل مجرد نسخ. ثم لوحظ وجود مخالفات بناءٍ داخل الحرم الأثري للموقع، الذي تقدّر مساحته بـ 15 كم مربع. ثم بدأت أعمال التنقيب السرّية مع مطلع هذا العام، لتزداد حدّتها وترتفع وتيرتها بالتدريج، حتى وصل عدد الحفر غير المشروعة في المكان إلى أكثر من 300 حفرة متفاوتة الأحجام، من بينها 10% من الحفر الهامة والخطرة، حسب مصادر رصدت أعمال الحفر في أواخر آذار الماضي. كما تكاثرت مخالفات البناء، وأُحدثت محطة محروقاتٍ مقابل البوابة الرئيسية للموقع.
وبازدياد عدد الطامعين تحول البحث عن الثروات إلى مهنةٍ للمئات الذين يتوافدون إلى المكان يومياً بشكلٍ منظّم، محميين بقوّة السلاح الذي يرهب من يحاول الاعتراض أو التصوير، كما حصل عندما تم تفتيش كاميرا "عين المدينة"، مما اضطرّنا إلى استخدام كاميرا الموبايل خفيةً. ويقدّر مراقبون آثاريون أن هذه الانتهاكات قد أدّت حتى الآن إلى تخريب الموقع بنسبةٍ قد تصل إلى 80%، بعد أن انتقل المنقبون من العمل اليدوي البسيط إلى حفر مربعاتٍ كبيرةٍ قد يصل عمق الواحدة منها إلى ثلاثة أمتار.
ثمن قطعة نقدٍ من البرونز أو النحاس (أنتيكات) من 100 إلى 200 ليرة سورية. ـ ثمن الجرار الفخارية المزخرفة (القيشانية) من 1000 إلى 2000 ليرة. ـ ثمن القطعة الفضية من 5000 إلى 15000 ألف، وبحسب المرحلة التاريخة. ـ ثمن قطعة النقد الذهبية أكثر من 90 ألف ليرة، وبحسب المرحلة التاريخية. ـ لا يوجد سعر محدد للتماثيل، وحسب أهميتها وقيمتها التاريخية. ـ تُعطى الجرار الفخارية العادية أو جرار الماء مجاناً، إن لم يحطّمها العمال أثناء الحفر، أو يحتفظوا بها في البيت كذكرى. ـ الأجرة اليومية لعامل الآثار هي 1000 ليرة، بالإضافة إلى وجبة الغداء وعلبة دخان. ملاحظة: ارتفعت أسعار اللقى الأثرية مع الأخبار التي تتحدث عن بيعها بأسعار خيالية في الخارج.
مع الورشات
بعض الأشخاص الذين سبق لهم العمل مع بعثات التنقيب الأثرية السابقة يقومون اليوم بالحفر والتنقيب في "دورا أوروبوس"، والأغلبية هم أشخاصٌ جُددٌ على هذه المصلحة؛ كما يعلّق (سعيد. م)، وهو شابٌ في الثامنة والعشرين من العمر، من قرية الدوير القريبة. كان سعيد عامل بناءٍ، واليوم هو منقّبٌ عن الآثار. أسس مع بعض أصدقائه ورشة حفرٍ قبل تسعة أشهر ـ كما يقول ـ ومنذ ذلك الوقت وهو وأصدقاؤه يحفرون دون جدوى، إذ لم يعثروا ولو حتى على "أنتيكة" (المقصود بالأنتيكة، في اصطلاح عمال الآثار الجدد، قطع النقد الأثرية من البرونز أو النحاس). يشعر سعيد بالمرارة وهو يشاهد زملاءه في ورشاتٍ أخرى يجنون الملايين. ويواسي نفسه أنه سيحصل على ما يريد حتماً في وقتٍ قريب، وسيبتسم له الحظ كما ابتسم لغيره. يموّل سعيد ورشته من خلال تجارة آثارية صغيرة، إذ يشتري بين حينٍ وآخر قطعةً بسعرٍ رخيصٍ من الورشات الأخرى، ثم يبيعها بسعرٍ أعلى، ويذهب الربح في الإنفاق على العمل.
لا يشعر سعيد بأي ذنب، فهذه الآثار وغيرها كانت تذهب لماهر الأسد، كما يقول. وهو الآن أمام خيارٍ صعب: إما أن يموت جوعاً أو أن يعمل بالتنقيب عن الآثار. فهو لا يريد أن يسرق ممتلكات الناس، وهو يرى أنه يعمل هنا بعرق جبينه وتعبه. وعندما سيعثر على قطعةٍ مهمةٍ سيبيعها بسعرٍ كبيرٍ ثم يتوقف عن هذا العمل المنهك، الذي يشبّهه بالأشغال الشاقة. وبشيءٍ من الغيرة يختم سعيد حديثه، قبل أن يعود إلى العمل، بقصة مستخدم مدرسةٍ سابقٍ عثر على تمثالٍ ذهبي، باعه بـ 20 مليون ليرة، وتحوّل إلى تاجر آثار كبير
تسود روحٌ من التفـاهم والاحترام بين مختلف الورشات، فيتمّ تبادل الأطعمة وكؤوس الشاي في أوقات الاستراحة، واستعارة أدوات الحفر أثناء العمل، والتعاون على رفع الصخور. ولا تقترب أي ورشةٍ من حفريات الورشات الأخرى.
قصصٌ من عالم اللصوص
أســس ثلاثة شبان ورشـــــة تنقيب، وعملوا لشـــــــهرين فقط، وعثروا عــــلى جرّةٍ مليئةٍ بعـــــــــملات نقدية من الفضة باعوهـــا بثلاثة ملايين وستــمائة ألف ليرة، ليحصل كلٌ منهم على حـــصةٍ تمكنه من تأسيــــس ورشة مســــتقلة. وفي قصــةٍ أخــــرى عثــرت ورشة حفرٍ مؤلفة من ستة أشخاص، بينهم طالبٌ جامعيّ، على جرّةٍ تحوي عملاتٍ ذهبيةٍ قام بشرائها أحد أفراد هذه الورشة (وهو معلم مدرسة سابق) بمبلغ 8.5 مليون، ثم باعها لتاجر أكبر بسعر أعلى وأحرز بذلك ثروةً سخرّها للعمل في تجارة الآثار. وبحسب الشاب الثلاثيني (ح. م)، هناك الكثير من الورشات التي تعثر على القطع الأثرية وتخفي الأموال وتتابع العمل بنفس الطريقة الفقيرة البدائية، وهناك ورشاتٌ أخرى تطوّر عملها بشراء جهازٍ لكشف الأجسام المعدنية، وهو في الواقع جهازٌ لكشف الألغام. وربما يأتي شخصٌ ما وبحوزته هذا الجهاز ويشارك إحدى ورشات الحفر بالعمل معها، على أن يحصل على نصف الأرباح في حال العثور على شيء. أما الأثرياء الـــــــذين استـــــــــهوتهــم عمليات التنقيب فهم يستأجرون عمالاً بأجرٍ يوميٍّ محدّد. وهناك أيضاً ورشاتٌ عائليةٌ، حين يعمل الأب والأم والأولاد، ومعهم البنات أيضاً، في الحفر والتنقيب. وغالبية المنقّبين يأتون من القرى القريبة، بحسب (ح. م) أيضاً، بينما تباع معظم هذه اللقى الأثرية لتجارٍ يأتون من حلب وإدلب والرقة ودير الزور، ليقوم هؤلاء بتهريبها لاحقاً إلى الدول المجاورة، وتباع هناك بأسعارٍ أعلى.
أثناء الحفر، وعند العثور على جدار، يتم الحفر بنفس المستوى الأفقي لأعلى هذا الجدار، لاستكمال الجدران الأخرى التي تشكل باتصالها مع بعض غرفة أو قاعة. وبعد ذلك يركّز الحفر شاقولياً داخل هذه الغرفة حتى الوصول إلى أرض صلبة، وهي قاع أو أرضية الغرفة. وعادة يُعثر على الجرار الفخارية في زوايا الغرفة أو في فجوات الشبابيك داخل الجدران. ولا يهتم العمال عادة بالجرار الفخارية الفارغة، فيقومون بتحطيمها على الفور.