- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
«جيش الأحرار»... أزمةٌ جديدةٌ تهدّد أحرار الشام
قبل أيام، أعلنت (16) كتيبةً ولواءً من حركة أحرار الشام اندماجها لتشكل جيش الأحرار، وسمّت القائد السابق للحركة، هاشم الشيخ (أبو جابر)، قائداً له. وبرّر بيان التأسيس هذه الخطوة بالحرص «على وحدة الصف في حركة أحرار الشام الإسلامية، وزيادة الفاعلية العسكرية في الساحة».
إلى جانب أبو جابر، يقف وراء تأسيس هذا الجيش كلٌّ من القائد العسكريّ السابق للحركة أبو صالح الطحان، والشرعيّ أبو محمد الصادق، والقائد الأمنيّ السابق على الحدود أبو خزيمة. ينتمي الأربعة إلى مجلس شورى الحركة، وكانوا، إلى جانب أربعةٍ آخرين من أعضاء المجلس، قد علقوا أعمالهم فيه «بعد الوصول إلى طريقٍ مسدودٍ لحلّ الأزمات المتراكمة منذ أكثر من عام»، حسبما قال البيان الصادر عنهم في الأيام الأخيرة من الشهر الماضي، بُعيد فشلهم في تعيين أبو جابر قائداً للأحرار، مقابل تصويت ثلاثة عشر عضواً من مجلس الشورى لعلي العمر (أبو عمار) نائب القائد السابق.
ورغم التأكيد على بقائه في جسم الحركة، وفق ما قال بيان التأسيس، لاقى جيش الأحرار رفضاً واسعاً في أوساطها، وعدّه شرعيون وقادة رأيٍ مؤثرون داخل وخارج أحرار الشام تفريقاً إضافياً للصفوف. وقال (12) شيخاً حركياً بارزاً، منهم أبو بصير الطرطوسي وعلي العرجاني وأيمن هاروش، في بيانٍ مشترك: «إننا ننكر وندين ونفتي بتحريم ما أقدم عليه بعض الأخوة في حركة أحرار الشام من تشكيل تكتلٍ داخلها متجاوزين نظامها وأميرها الذي رفضوا أو نقضوا بيعته الشرعية»، مما دفع بعض الكتائب المنتسبة إلى الجيش الوليد إلى إعلان انسحابها منه وتأكيد تابعيتها لقيادة الحركة ممثلةً بأميرها الجديد.
يقدّر عدد الأفراد -المتوزّعين بتفاوتٍ كبيرٍ على الكتائب والألوية المؤسّسة لجيش الأحرار- بـ(1500-2000)، وهو عددٌ صغيرٌ أمام العدد الكليّ لمقاتلي الحركة الذي يفوق (24) ألفاً وفق ما يقول أتباعها. ومن بين الكتائب والألوية المنضمة إلى الجيش يبدو كلٌّ من لواء المدفعية والصواريخ ولواء المدفعية الرديف ولواء المدرعات، التشكيلات الأشد أهمية فيه، نظراً لحيازتها معظم السلاح الثقيل الذي تمتلكه حركة أحرار الشام، مما قد يحرم الحركة من معظم هذا السلاح في حال تطورت الأحداث ودفعت بهذه التشكيلات إلى الانشقاق الكامل. بيد أن توزع هذا السلاح على كتائب متفرّعةٍ عن الألوية الثلاثة، وانتشار هذه الكتائب على جبهاتٍ عدّةٍ في محافظات حلب واللاذقية وإدلب وحماة؛ يضعف من وحدة موقفها تجاه ما يحدث، ويترك خيار المضيّ مع الألوية الأم المنشقة أو الرجوع إلى القيادة المنتخبة في يد القادة المباشرين لهذه الكتائب، الذين تحرّكهم الظروف المحلية والحاجات العملية لكتائبهم قبل أيّ دافعٍ آخر.
* * *
منذ تشكلها في العام 2012 مرّت حركة أحرار الشام بأزماتٍ كبرى استطاعت التغلب على معظمها. وكانت حادثة مقتل قادة الصف الأول للحركة، أو معظمهم، قبل عامين، في قرية رام حمدان بريف إدلب، أخطر تلك الأزمات، ولعل الأزمة الحالية واحدةٌ من مفرزات تلك الحادثة. فبغضّ النظر عن النزعات الشخصية الدافعة إلى محاولة الانشقاق، أو الانقلاب كما يقرأه البعض، تعاني الحركة بالفعل من عوامل ضعفٍ عميقة، أولها تفاوت درجة الانتماء إليها بين نوعين من القوى المؤلفة لها، وهما النواة الأولى للحركة التي تألفت من كتائب أحرار الشام وكتائب الإيمان والطليعة المقاتلة ولواء رايات النصر وحركة الفجر (التي لم تلبث أن انفصلت عن الحركة بعد أشهرٍ من انطلاقتها)، ثم الكتائب والألوية التي انضمت إلى الحركة في وقتٍ متأخرٍ من ولادتها وظلت متمتعةً بهامشٍ واسعٍ من الاستقلال أتاحته طريقة انتسابها ككتلةٍ لم تمسّ تركيبتها بعده، ثم حفاظها على مصادر تمويلها الخاصة وعلى التجنيد المباشر من البيئات المحلية التي نشأت فيها.
خلال مدة العام التي تولى فيها قيادة الحركة، حاول أبو جابر القيام ببعض الإصلاحات التنظيمية، إذ عمل على تأسيس قوةٍ عسكريةٍ جديدة، عرفت بـ«المركزية»، تكون أشدّ انتماءً للحركة وولاءً لها. واعتمد في تغذية هذه القوة على عناصر الحركة القادمين -فرادى ومجموعاتٍ- إلى ريف إدلب من المناطق التي سيطر عليها تنظيم داعش في محافظات دير الزور والرقة والحسكة وحلب. ونجح الشيخ في إقناع كثيرٍ من الكتائب بتسليم سلاحها الثقيل -من المدافع بعياراتها المختلفة، والمدرعات والدبابات بدرجةٍ أقل- إلى لوائي المدفعية والمدرعات الناشئين، وإلى جانبهما ظهرت وحداتٌ جديدةٌ سميت بأرقامٍ وشكلت العمود الفقريّ للقوة المركزية، قبل أن تضعف بالتدريج بانشقاق القوة (106) قبل أكثر من عام وتآكل الوحدات الأخرى بخروج معظم أبناء المناطق المحتلة من داعش إلى تشكيلاتٍ جديدةٍ تضع قتال هذا التنظيم وهموم مناطقهم في أول اهتماماتها. وسوى ضعف درجة الانتماء، تعاني الحركة من مشكلةٍ تنظيميةٍ أخرى هي تضخم الأجهزة المدنية، في هيئاتها ومكاتبها الخدمية والإغاثية والإنتاجية، مما يشعب الاهتمام ويشتت الجهود ويلقي بمزيدٍ من الأعباء على كاهل الحركة.
وعلى وقع الأحداث والتطورات الكبرى في الساحة السورية، ظهر، وبشكلٍ أشدّ وضوحاً، تياران فكريان متصارعان في صفوف الحركة، تيارٌ عمليٌّ منفتحٌ على مجتمع الثورة بدا مستجيباً لآلامه وتطلعاته، وتيارٌ آخر متشدّدٌ في مواقفه إزاء ما تفرضه الظروف، يقدّم الفكرة المجرّدة على المصلحة المؤكدة التي تفرضها العوامل القاهرة، ويصرّ على التمسك بالهوية السلفية الجهادية -التي كانت مكوّناً أصلياً للأحرار- دون حسابٍ للعواقب أو مراجعةٍ لهذا التمسك، رغم الأخطاء بل المهاوي المتجدّدة التي تقود إليها هذه الهوية كلّ مرّة. مثّل التيار الأول -وبوضوحٍ لافت- الرئيس السابق للمكتب أو الجناح السياسيّ، لبيب نحاس، وكلٌّ من الشيخين البارزين أيمن هاروش وأحمد نجيب، والقياديّ المؤسّس أبو عزام سراقب، وآخرون. ويمثل المتشددين اليوم أبو محمد الصادق الذي تضخم دوره في عهد أبو جابر بالرغم من عدم انتمائه تنظيمياً للأحرار في السابق، وأبو صالح الطحان الذي رفض أن توقع الحركة، في عهد قائدها المؤسّس أبو عبد الله الحموي، على ميثاق «شرف للكتائب المقاتلة في سورية» في الشهر الخامس من العام 2014، وعلق عضويته فيها احتجاجاً على هذا التوقيع، ولم يعد إلى صفوفها إلا بعد رحيل الحموي وترؤس أبو جابر الحركة ليعيّنه قائداً عسكرياً لها.
وبالرغم من أكثرية التيار المعتدل، وولاء معظم القادة العسكريين في الألوية والكتائب الكبيرة له، تظل للمتشددين قوةٌ ضاغطةٌ على الحركة طالما بقوا في صفوفها، مستفيدين من غياب القائد القويّ المتمتع بالكاريزما في الصف المقابل، ومن الجوار المساند معنوياً لهم في جبهة فتح الشام والفصائل الجهادية الأخرى. وبرزت فعالية قوة الضغط تلك في حالاتٍ عدّة، كانت أبرزها إزاحة لبيب نحاس عن رئاسة المكتب السياسيّ وتعيين لجنةٍ شرعيةٍ تشرف على عمل المكتب، تألفت من الصادق والطحان والشيخ، قبل أن يملوا وظيفتهم هذه ويتركوا المكتب وشأنه، لكن بعد تقييد اندفاعه وتراجع دوره. وبرزت أيضاً في ارتباك الحركة وترددها في التعاطي مع جند الأقصى ثم جبهة فتح الشام بعد اندلاع المعارك مع الجند، ثم في تردد الأحرار قبل أن ينخرطوا في حملة «درع الفرات» بمساندة الجيش التركي ضد تنظيم داعش.
يصعب تفسير موقف أبو جابر وتورطه في هذه المغامرة، وهو القائد الذي تولى أمر الأحرار في وقتٍ عصيب، وكان له قبل ذلك تأثيرٌ في توسع الحركة في محافظة حلب، وفي ريفها الشرقيّ على وجه الخصوص، عندما نجح، من موقعه كنائبٍ لأبو خالد السوري أمير الأحرار في حلب آنذاك، في استقطاب كثيرٍ من أبناء جماعة الدعوة والتبليغ، وفي تلطيف الأجواء مع الجماعات الصوفية هناك. وأسهم تفجر مواجهة الأحرار مع تنظيم داعش انطلاقاً من بلدته مسكنة في تعزيز صورته كمعتدلٍ ومحاربٍ شرسٍ للغلو. لكن أبو جابر، كما يردد البعض، وقع لاحقاً تحت تأثير كل من أبو محمد الصادق وأبو صالح الطحان، وهما من دفعا به نحو هذا الدور المستغرب عليه.
في أيامه الأولى في قيادة حركة أحرار الشام، يصعب الحكم على كفاءة أو قدرات علي العمر (أبو عمار) الأمير المنتخب الجديد، لكن جرأة المنشقين أو المنقلبين عليه في جيشهم المفترض تدل على حجم ونوع المصاعب التي ستواجهه. ويفترض به، وهو من ترعرع على خيبات الإسلام السياسيّ، ابناً لأسرةٍ هاربةٍ إلى العراق من بطش حافظ الأسد في ثمانينات القرن الماضي، ثم شاهداً على سقوط نظامٍ شموليٍّ ظالمٍ مثل نظام صدام حسين، وعلى فشل المقاومة السلفية الجهادية في تصديها للاحتلال الأميركيّ للعراق؛ أن يحمل في جعبته الكثير من العبر التي قد تنجيه وتنجي حركته من مصائر شبيهة.