مؤلف هذا الكتاب هو «الدكتور» صالح عضيمة، الذي كان أستاذاً في جامعة دمشق (ولو لمدّة عامين). وعلى مدى 700 صفحةٍ تقريباً يفيض في شرح العنوان الفرعيّ لكتابه: «مقولة في حكمة السياسة وسياسة الحكمة»! صدر الكتاب عن مؤسسة الاثني عشر، باريس، 1992، رغم أنه أنجز عام 1991. ولكن نشره تأخر، عاماً كاملاً، بسبب «نذالة الأنذال».
يبدأ المؤلف كتابه بتقرير حقيقة أن السوريين لا يحبّون حافظ الأسد، بل يكرهونه أشدّ الكره. ولا يريدون أن يروه سلطاناً عليهم. وهو، وإن قطع ألسنتهم بأنواع التسلّط والخوف والمراقبة، فإن وجوههم تتكلم بالتقطيب، وحركاتهم تنطق بألف لونٍ من التعبير عن الرفض والنفور. وجميعهم يشيرون إلى المجهول عند الحديث عن منبع شقائهم، وهو عندهم معلوم. وإذا سنحت لأحدهم الفرصة فإنه يصرّح باسمه، ويشعر أنه بذلك قد أظهر بطولةً نادرة.
وإذا قال البعض إن سبب هذا الكره هو أن حافظ الأسد «من هذه الفئة وليس من تلك الفئة»، فإن المؤلف يرى أنه «قد يكون لذلك شيءٌ من ظلٍّ أو شيءٌ من أثر»، ولكن السبب الرئيس هو الاستفحال الشديد لعناصر الفساد، والتمييز البارز الفاقع للسلطة والحاشية، والبطر والغرور!
وإذا كان الشعب معذوراً، فالعجب عندما ترى هذه الحاشية نفسها ترمي الأسد بالذم والقدح، ويتهمونه بما يتردّد الشعب المسكين أن يتهمه بمثله. ولا ينقل المؤلف هذا عن فلانٍ وعلان، بل عما سمعه منهم في مجالسهم.
بل إنه يفيدنا، من موقع اطّلاعه طبعاً، أن تفرّد حافظ الأسد بأزمّة الأمور هو من «كبريات المسائل» التي عجّلت في تأزّم «الفتنة» بين الأخوين حافظ ورفعت. فإذا كانت الديكتاتورية من أبرز خصال الأوّل، كما هو معروف، فإن الثاني يرفض إطاعة الأمر ما لم يكن مقتنعاً به، وما أكثر ما تنازل لأخيه، لئلا «يُدقّ بينهم عطر مِنْشَم»! وما كان أسهل عليه أن ينتزع السلطة من أخيه الأكبر، «في ليلةٍ داجيةٍ شاتية». ولكنه آثر الاستجابة لعاطفة القربى من جهةٍ، وأن يحرّر هذا الشعب من أثر الفتنة، ويعيد إليه فرحه وأمنه، من جهةٍ أخرى! ومن هنا كانت هذه القرابة وبالاً على رفعت لا نعمة، حين حالت بينه وبين أن تكمل مواهبه تفتّحها، وأن تأخذ مداها، في ظلّ حافظ الذي يؤثر أن يحيط نفسه بالأتباع الخاملين، ممن ليسوا على غرار رفعت، الذي هو، بحسب المؤلف، أشبه ما يكون بنابليون بونابرت من جوانب كثيرة! لولا أنه لم يكن للأخير أخٌ مثل حافظ، يغلق في وجهه أبواب ما يستحقه من مجد!
تعرّف المؤلف إلى رفعت، عندما كان الأوّل في الأشهر الأولى لخدمته العسكرية، يزور أحد أصدقائه في مجلة «الفرسان»، فكان أن دعاه «القائد» فوراً ليكون ضمن قوّته الضاربة، «سرايا الدفاع»، عند إنهائه دورة الأغرار. وعن السرايا يقول المؤلف المطّلع إنها كانت قطعةً من الجيش ومفصولةً عنه في الوقت نفسه، تتجاور فيها مظاهر النظام والفوضى، كما تتجاور الأسلحة الثقيلة والحديثة والنادرة، التي تحمل رائيها على القول إنه في بلدٍ لا يمكن أن يُقهر، بجانب أحدث ما وصلت إليه صناعة السيارات الفارهة والفخمة في العالم. فإن أربكتك مظاهر التناقض فإن ذلك سيظلّ ضئيلاً أمام عجبك وذهولك من توحّد القلوب على حبّ رفعت والاجتماع على طاعته وفدائه. وإياك –عندما تبحث عن تفسير ذلك- أن تعيده إلى أنه كان يملك ضباطه وجنوده بالقوّة، أو بالكرم والأعطيات، أو بتمييزهم عن باقي قطعات الجيش، أو لأنهم كانوا ينتمون إلى فئةٍ معينةٍ ومكانٍ معينٍ، «كما زعموا»، بل السرّ الذي يحلّ اللغز هو «فن القيادة»!
***
على مدى صفحات الكتاب يرتكب المؤلف الكثير من الإنشاء، ويتهرّب من القول إن منهج حافظ الأسد في الحفاظ على شكليات الدولة، ولو بالحدّ الأدنى، يبعث الضيق في نفوس كثيرٍ من عشاق بوعلي شاهين، ورفعت الأسد، وماهر، وسهيل الحسن. ممن يفضّلون الحرية المفتوحة التي تتمتع بها «العصابة» على رتابة «الدولة». وأنهم –لهذا السبب- كانوا المحضن المخبريّ للشبّيحة، قبل الثورة وبعدها.