- الرئيسية
- مقالات
- ترجمة
نشأة وترعرع جيل ما بعد الإبادة (1) من (2) روايات حول المجازر في رواندا
سوزي لنفيلد
عن مجلة Dissent الفصلية- خريف 2018
ترجمة مأمون حلبي
هل يمكن للمرء أن يحبّ شخصاً مارس التعذيب -حتى، أو خصوصاً- إن كان من أقرب المقربين؟
الصحفي الفرنسي جان هازفيلد هو مؤرخنا الكبير للألم والحزن. في سلسلة لافتة من الكتب، مكتوبة بالأصل باللغة الفرنسية ونُشِرت على مدار الخمس عشرة سنة الأخيرة، وثّق هازفيلد الإبادة الرواندية من خلال كلمات الناجين التوتسي والمرتكبين الهوتو –والآن من خلال كلمات أبنائهم.
كتبه هي أساساً تأريخات شفهيّة– مع ذلك، مبنيّة بعناية، ومتداخلة مع مقاطع من نصوصه نفسه- تستكشف التجارب الذاتية المحَددة للروانديين وتطرح أسئلة أوسع ذات طابع أخلاقي وفلسفي وسياسي. عمل هازفيلد هو في وقت واحد غاضب ومتفهّم، نفّاذ ورقيق، كشّاف وحائر. بحكم كتابته للجريدة اليومية اليسارية الفرنسية "ليبراسيون" ومطبوعات أخرى، فقد جاب هازفيلد العالم، وغطى لبنان وإسرائيل والعراق وصعود حركة "التضامن" البولونية والحروب في يوغوسلافيا. أعماله عن رواندا محدودة النطاق، وتركّز على منطقة واحدة (منطقة نياماتا).
من كتاب إلى كتاب، يُعاود هازفيلد زيارة عدد كبير من نفس الأشخاص. في المجلد الأول "الحياة بلا رتوش: الناجون في رواندا يتكلّمون" الصادر عام 2000، يروي الضحايا تجاربهم المدمّرة ويحاولون تفهّمها، غير أنّ محاولة التفهّم هذه بالطبع عمليّة فاشلة، فالإبادة تشكّل حالة شرخ في مسار التاريخ –إن كان على المستوى الشخصي أو السياسي– وليس استمراراً له. وكما يطرح الأمر سيلفي أومو بيبي، الذي كان وقتذاك في الرابعة والثلاثين: "عندما أفكّر بالإبادة التي حدثت في بلدنا، في لحظة صفاء، أتأمّل بإمعان أين يمكن للمرء أن يُموضع الإبادة في الحياة، لكني لا أجد مكاناً لها. ببساطة، أعني أنّ الإبادة لا رابط لها يربطها بعالم البشر".
الكتاب الثاني "موسم السواطير: القتلة في رواندا يتكلّمون (2003)" مرعب. مجموعة من مرتكبي الإبادة من نياماتا، الذين سبق وتمّت إبادتهم وسجنهم، يصفون جرائمهم بهدوء، دون أي انفعال: أول مرة قتلوا شخصاً ما، قتل الأطفال (الذين كان الجناة يتدربون عليهم أحياناً)، عمليات الاغتصاب والتعذيب والذبح. ما يتكشّف للقارئ للمرة الأولى –ما يطفو إلى السطح من هؤلاء المزارعين البسطاء الذين لا يعرفون اللف والدوران– هو حقيقة لا تُسِّر على الإطلاق: شهور القتل الثلاثة تلك كانت ذروة الذُرى في حياة أولئك الجناة، حياة ممتلئة بالانفعال والإثارة والروح الرفاقية.
يمكن للإبادة، هكذا يبدو، أن تكون بهجة ومتعة. يوضّح هذا الأمر رجل يدعى إيلي: "على العموم، لم نكن نبالي... طالما كنا نعرف أنّ القتل كان مستمراً في كل مكان دون أن تعترض ذلك صعوبات غير محسوبة. كان الفقراء مُرتاحي البال وعلى سجيّتهم، والأغنياء يبدون مبتهجين، والمستقبل يعدنا بأيام قادمة طيبّة". وينتهي "موسم السواطير" بهذا الاعتراف الصادر عن ألفونس: "في نهاية الموسم في المستنقعات كنا محبطين لأننا قد فشلنا. فقدنا الهمّة وانهارت معنوياتنا جرّاء ما كنّا سنفقده... لكن في أعماقنا، لم نصل مرحلة الإشباع من أي شيء".
ثالث مجلدات هازفيلد يحمل عنوان "استراتيجية الوعل: العيش في رواندا بعد عمليات الإبادة". صدر هذا المجلد عام 2007، وغالباً ما تكون قراءته مضنية. مصطلح "الإبادة" –شأنّ مصطلح "جرائم ضد الإنسانية"– يمكن له أن يكون غير مشخصن لدرجة الميوعة. "استراتيجية الوعل" يشرح الوقائع البشعة الكامنة خلف هذه الكلمات، فالناجون يسردون بالتفصيل ما كابدوه، وكيف بقوا أحياءً في المستنقعات التي فرّوا إليها: كانت أجسادهم مغطاة بالقمل والجَرَب، وكانوا يزحفون وسط الطين بأسمال ممزقة، رائحتهم نتنة، ويحاصرهم الجوع. كانوا يُطارَدون ويُضربون ويُغتصَبون. شبّهوا أنفسهم بالخنازير ووصفوا أنفسهم بالمقززين.
تتذكر امرأة تُدعى ميدياتريس: "كنا عدماً يرتدي ثياباً رثّة، وكنا دريئة تمشي بينما يجري التدرّب عليها. كنا في الغابة نسلك سلوك المجانين... لقد كان وجوداً محفوفاً بالمخاطر، وتقريباً يشبه الوجود الحيواني". حجم التصدعات النفسية هائل، إذ يصف الناجون أنفسهم أنهم كانوا مصعوقين ويشعرون بالهجران والمرارة. كانوا محطمين، وثقتهم بالعالم قد انهارت، (كان هذا الشعور بالخذلان الموضوعة الرئيسية للكاتب جان أميري، الذي عذبّه الجستابو واستعبده في معسكر أوشفيتز، ويكرّر الروانديون كلماته بشكل غريب ومفزع).
وتبدو كلمات مثل "المصالحة" و"الصفح" كأنها نُكاتٌ بذيئة، وكذلك الأمر بالنسبة لكلمة "المستقبل". توضّح كلودين هذا الأمر "أنا أفريقية وأخاف الأفارقة. السعادة بالنسبة لأفريقي تعني الأطفال بالدرجة الأولى... في أفريقيا الأطفال هم الأمل الأخير، لكن الأمل بماذا، هذا ما لم نعد نعرفه". هنا تأتي بنا هذه الموضوعة إلى كتاب (الرجل المدعو أبي Blood Papa).
شخوص هازفيلد، الذين يُشير إليهم بأسمائهم الأولى، يظهرون دائماً كأفراد مختلفين عن بعضهم، وهذا الاختلاف ينطبق أيضاً على الأطفال –وهم في الواقع، في أواخر سن المراهقة أو بدايات سن النضج– الذين يظهرون في " Blood Papa"، فكل طفل منهم لديه طريقته الخاصة في مقاربة هذا الإرث الكالح لبلدهم. بالطبع توجد مشتركات بينهم: الجميع على دراية بالإبادة التي حصلت من خلال ما يسمعونه في المدرسة، وفي شهر نيسان من كل عام يشارك البلد بكامله في "أسبوع الحِداد".
بعض الذين تمت مقابلتهم كانوا صغاراً أثناء الإبادة، وبعضهم الآخر وُلِد عقبها مباشرة، وعدد كبير منهم لديهم ذكريات ضبابية عنها. مع ذلك هناك موضوعات توحّد أفراد كل جماعة، المتحدّرين من الناجين التوتسي والمرتكبين الهوتو، فتفاصيل ما حدث وعمليات فهمها هي مسألة مشتركة ضمن كل جماعة عرقية، وليس بين الجماعتين.
كل اليافعين الذين يظهرون في "Blood Papa" متحدرون من أولئك الذين قابلهم هازفيلد في كتبه السابقة. إنه أمر جذّاب أن يتم تعقّب الروابط الواصلة بين الأجيال، وربما يبدو من غير المفاجئ أنّ أطفال الناجين يريدون أن يعرفوا أقصى ما يمكن عمّا حدث، في حين أنه بالنسبة إلى أطفال المرتكبين، فكلما كانت المعرفة أقل كان الأمر أفضل قطعاً.
آباء وأمهات الأطفال التوتسي يكشفون عن التجارب التي مرّوا بها بشكل كامل، على الأقل عندما يبلغ أبناؤهم سنّاً معينة، وبعدها يبحث أولئك الأطفال عن معرفة المزيد. تتذكّر آنجي (19 عاماً ابنة لأحد الناجين): "كنا نتكلّم عن الإبادة في عائلتنا. عندما كان عمري 13 عاماً، كان لديّ الشجاعة لطرح أسئلة استقصائية بدرجة أكبر... كنت أتحرّق دائماً لمعرفة مزيد من التفاصيل عن أقداري، لأني أنا نفسي نجوت من الساطور عندما كنت رضيعة. آباؤنا وأمهاتنا يحكون تجاربهم دون تورية... يتكلّم أبي بكلمات مباشرة عن عُريّهم الفاضح، عن الأطفال الذين تخلّى عنهم أهلهم أثناء فِرارهم، عن السيدات اللواتي اُغتصبن أمام عيون الناس... ما من نهاية لأسئلتي". بالنسبة لـ جان، فالعكس صحيح. "كلا، لا سؤال البتة عن المذابح"، يقول ذلك في إشارة إلى والده فولجانس بوناني، الذي حُكِم عليه بالسجن مدى الحياة لجريمة قتل فظيعة بعينها. "ولا سؤال إطلاقاً لأمي أيضاً".
ليس هناك معادل لإنكار الهولوكوست بين أطفال الهوتو، إنما هناك مجرّد نوع من التجاهل المتعمّد، مع أنّ ذلك يمكن أن يستثير الآلام والكروب، خصوصاً في ثقافة يلعب فيها احترام الوالدين أهمية بالغة. ولعملية ضبط العواطف وكبحها ثمن يتخذ شكل شكوك مقيمة ومقلقة. "هل عليّ أن أصرّ على أن يعطيني التفاصيل؟"، يسأل فابريس بخصوص والده جوزيف بيترو، الذي كان الرجل الوحيد في "موسم السواطير" الذي تلقّى حكماً بالإعدام (لكن لاحقاً خُفِّف إلى حكم بالسجن المؤبد)، "كلا، فمن المحتمل أن يُثير اشمئزازي الإصغاء إلى تفاصيل ما حدث. إنّ لمس بعض ضروب الشر قد تحرق المرء... هل بوسع المرء أن يلوم والده لدرجة هجرانه إلى الأبد؟ عندما يقف الطفل أمام أبيه، يشعر بوجل شديد يقطع عليه طريق فصل الصفات الحميدة عن الصفات الشريرة".
يعبّر أطفال الناجين عموماً عن الافتخار بآبائهم وأمهاتهم عوضاً عن الخجل. الاستثناء في ذلك ربما يتمثّل في أولئك الذين "وُلِدوا من بذرة جهنميّة"، أي تمّ الحمل بهم عن طريق اغتصاب الأم أثناء عمليات الإبادة. (التعبير " Blood Papa" له معنى مزدوج: فهو قد يكون إشارة إيحائية إلى الوالد البيولوجي للمرء، وقد يكون إشارة إلى نسب المرء المُخجل الذي نتج عن الجريمة والاغتصاب.)
وُلِدت نادين، 17 عاماً، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وهناك كان قد سبق لأحد مرتكبي الإبادة الهوتو أن اختطف والدتها واستعبدها. (أمها تُدعى كلودين). كيف يمكن لها أن تستوعب اطلاعها على هذه الواقعة الشاذة، التي سمعت بها لأول مرة من إحدى جاراتها الحقودات؟ "أشعر أني عالقة بإحساس يشبه القرف"، تعترف نادين، مع أنها رُبِّيت على يد رجل محب تعتبره والدها الحقيقي. مع ذلك لا يمكن لولادة غير طبيعية من هذا النوع –مزاوجة غريبة، بشكل منفّر، بين الحميميّة والهمجيّة– أن تتم معالجتها بسهولة. "لقد تقصيّت شرور الإبادة حتى العمق"، تؤكد نادين. "أحياناً أفكّر بالأب الذي وهبني الحياة من خلال التسبب بمعاناة فظيعة للغاية لأمي. مع ذلك أودّ أن أقابله... هل تسامح ابنةٌ الرجل الذي أعطاها الحياة؟ هل سأحاول أن أتفهّمه؟ ربما تخذلني الكلمات في حضرته، وتراني أرتعش لا أكثر".
بالنسبة إلى الكثير من اليهود (بالطبع ليس لجميعهم)، أدّت الإبادة النازية بحقهم إلى التشكيك بـ، إن لم يكن الرفض الصريح لِـ، فكرة الله. كيف يمكن للمرء أن يوفّق بين ربّ الإسرائيليين –أو أي إله آخر– وبين الإبادة النازية في معسكر الاعتقال في تريبلينكا البولونية؟ لكن في رواندا، وغالبية سكانها الساحقة مسيحيون –مع ذلك شجّع بعض القساوسة والراهبات عمليات الإبادة، وارتُكبتْ بعض من أفظع المجازر في كنائس كاثوليكية– يبدو أن العكس قد حصل. فهناك يغمر إيمان عميق حياة التوتسي والهوتو الذين تحدّث معهم هازفيلد. لكن مع أنّ الله يمكن أن يكون موجوداً، إلا أنه لا يُجيب على الأسئلة الأكثر إرباكاً وحيرة، أو حتى يُقدّم بلسماً شافياً بما يكفي. تقول إيماكوليه (16 عاماً ابنة أحد الناجين): "إيماني عميق. دمار شعب هو من مشيئة الله. أمّا لماذا يقبل إله رؤوف السحق الكلي تقريباً للسكان التوتسي من قِبل جيرانهم؟ فهذا سؤال وجيه، ولا أعرف جواباً عليه".
يطرح أبناء السجناء المُدانين أسئلة من هذا النوع أيضاً. إدلفونس (19 عاماً وهو ابن آخر لفولجانس بوناني) يعتبر نفسه "كاثوليكياً صالحياً"، لكنه يُضيف: "مع ذلك، ما يزال المرء يتساءل كيف أُمكِن لإله طيب وكليّ القدرة أن يُغلق عينيه عن مذابح من هذا النوع".
شخوص هازفيلد اليافعين يحاولون بطريقة مؤثرة أن يجدوا حلاً للمعضلة القائمة منذ مئات السنين، معضلة تطرحها البربرية البشرية أمام الإيمان بالخالق، لكن لا أحد يستخدم الدين كشمّاعة للتبرير. تقول فابيولا (19 عاماً) "كان الله على علم بما يحدث على التلال، لكنه زوّد البشر بالذكاء الكافي ليختاروا بين الخير والشر". أما لماذا فشل هذا الذكاء، فهذا واحد من الأسئلة الكثيرة التي لا تُبارح ذهن أطفال الإبادة. ويمثّل كتاب " Blood Papa"، إضافة إلى أمور أخرى، مُعاينة وتحليل لموضوعة عدم تناقض العدالة والقدرة الإلهية مع وجود الشر في العالم.