- الرئيسية
- مقالات
- رأي
ما بعد داعش... نذر الحرب الخامسة
المشهد ليس جديداَْ بالكامل: انهيار تنظيم إرهابي في الشرق الأوسط تحت ضربات مكثّفة لتحالف عسكري دولي تقوده الولايات المتحدة، شهدنا هذا في أفغانستان، ثمّ في العراق، والآن في العراق -مجددا- وفي سوريا. ومع أنّ توقع النتيجة العسكرية لمثل هذه المواجهات يعتبر أمراََ سهلاََ، إلّا أنّ تكرارها -أربعة حروب في 10 سنوات- يوحي أنّ ثمّة نقصاََ في تمكين النصر الدولي، يجعل فرصة عودة التنظيمات الإرهابية بوجوه جديدة، وتعبيرات عنفية مدمرة، وتزايد في مستويات الوحشية، متاحاََ في كل مرة.
منذ إعلان أبو بكر البغدادي تأسيس (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، والتي عرفت اختصاراََ وتنكيلاََ اجتماعياََ ب(داعش) في نيسان 2013، بات هذا التنظيم هو الأكثر حضوراََ وخطراََ في سجلات الحرب على الإرهاب. ليس هناك متسع لإعادة سرد الأسباب التي جعلت داعش يتصدر واجهة الإرهاب العالمية؛ فهي معروفة ومتعددة التفسيرات، ومنتشرة بكثافة توازي في تحليلاتها الواقعية عدد نظريات المؤامرة المفصلة التي أحاطت بهذا الظهور الوحشي المنفلت. لكنا نشهد الآن المراحل الأخيرة لداعش ككيان إرهابي مركزي، اضمحل وجوده الجغرافي إلى أقل من 10% فقط من المساحة التي اجتاحها في 2014، ومثلّت حوالي ثلث مساحة العراق ونصف مساحة سوريا.
لكنّ نجاح التنظيم في صد هجمات النظام والميليشيات المتحالفة معه في البوكمال، آخر مركز حضري كبير يخضع لسيطرته، وهجومه المنسق والمنظم على مطار ديرالزور العسكري قبل أيام، باستخدام ثغرة ولاء وخوف قوات النظام من (الخبراء العسكريين الروس)، وعودة ظهوره بصورة عصابات سريعة الحركة في مناطق من محافظتي صلاح الدين وديالي في العراق، يشير بوضوح إلى أنّ التنظيم لم يستسلم بعد. ولا شك أنّ داعش قد تلاشى تقريبا كمشروع سلطة دعيت بالخلافة، لكن ّالقضاء على هذه الخلافة المزعومة شيء، والتخلص نهائياََ من إمكانية عودة داعش، ربما بصيغة جديدة، شيء آخر تماما.
بخلاف جبهة النصرة التي ظهرت، كمسمى غير معروف قبلا لفرع القاعدة في سوريا، فإنّ داعش هو امتداد معلن لسلسلة تشكلات بدأت ب(جماعة التوحيد والجهاد) عام 2003، ف(قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) عام 2004، ف(مجلس شورى المجاهدين) آخر 2005، ف(الدولة الإسلامية في العراق) في تشرين أول 2006. شهدت (دولة العراق) تقريباََ مسار داعش ذاته، وإن بصيغة مصغّرة، ففي أوج قوتها بين 2006 و 2008 حققت انتشاراََ كبيراََ في محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى، قبل أن تتهاوى تحت وطأة ضربات الصحوات السنية المسنودة من الجيش الأمريكي. ولم يختلف المحتوى الوحشي لأداء دولة العراق الإسلامية عن داعش كثيراََ في مبدئه، لكنّ الأخير كان يمتلك أدوات دعائية أقوى، ومساحة جغرافية متصلة أكبر بكثير، وقبل كلّ ذلك نيّة مستقرة لتحويل الشناعات الدموية إلى بروباغندا مرعبة ولصياغة مشروع إبادة.
تبقى النقطة الحاسمة في هذا السياق أنّ دولة العراق الإسلامية استطاعت التعافي سريعا من حالة (التبوّغ) إثر ترك الأمريكيين والسلطات العراقية -حكومات نوري المالكي- مناطق الصحوات دون دعم؛ فشنّ فرع القاعدة العراقي حملة تفجيرات وتصفيات واغتيالات واسعة، مدعوماََ بسردية انتقامية عززتها السياسات الطائفية للمالكي -اتُهم النظام السوري عشرات المرات بدعم الإرهاب في العراق، قبل أن يتحول إلى حليف له ضد الثورة السورية- ما أتاح بقاء بنية شبه متماسكة مهّدت لقيام داعش لاحقا.
في الواقع فإنّ التنظيمات الإرهابية تشهد التحولات والمراجعات الكبرى لتوجهاتها التنظيرية ولتكتيكاتها القتالية على حد سواء خلال مراحل انكماشها، بينما تميل إلى إظهار تحالفاتها غالبا في لحظات قوتها، وهذا حدث مع (دولة العراق الإسلامية)؛ وهي عملياََ حلف من مجموعات متطرفة مركزها (القاعدة في بلاد الرافدين)، حيث تردد بعض التفسيرات أنّ التحالف الذي شكل داعش لاحقاََ ضمّها (دولة العراق الإسلامية) إلى ضباط سابقين في جيش صدام حسين، ومقاتلين موالين لعزة الدوري نائب صدام السابق.
وسيعود السؤال هنا مجدداََ: بعد القضاء على (خلافة داعش)، ككيان مارس سلطة على جغرافيا محدّدة، هل ستكون الظروف التي مهدت لظهوره مغايرة للظروف بعد انهياره؟
داعش كان أساساََ اعتداء إرهابياََ خارجياََ على الثورة السورية، استثمر في ظروف استقالة الدولة من مهمة حماية المواطنين من أجل التفرّغ لقتلهم، وهو شرط لا توجد مؤشرات إلى تغيره، إن لم يكن تطوره نحو الأسوأ مع تأسس سردية طائفية لمعنى وصورة القوة المهيمنة فعلا على المناطق التي طرد منها داعش، وبينما لا يجد نظام بشار الأسد ضرورة لنفي هذه السردية باعتبارها تتعلق بمجتمعات تصنف غالبيتها كأعداء وخونة لمشروع طغيانه الأبدي؛ فإنّ داعش، كتنظيم متهاوٍ وناكس إلى أصوله السرّية، لن يعدم التنظيرات التي توسع مروحة تكفير ذات المجتمعات لشن حملات التفجير التي سبق وأن قتل آلاف العراقيين بها قبل أن يجد سانحة ظهوره الأخير والمدمر.
يبدو جليا أنّ أكبر ضمان لعودة داعش، بصيغة متحولة أكثر إرهاباََ ووحشية، هو بقاء نظام الأسد.