لا نبالغ إذا قلنا إن أحد أهمّ أسباب تأخر انتصار الثورة على النظام الكيماويّ في دمشق إنما هو فقدان الإحساس المتبادل، ومتعدّد المستويات، بين المكوّنات الوطنية بحساسياتها وهواجسها وتطلعاتها المتباينة.
فـعلى رغــم شــعار "الشــعب السوري واحد" الذي هتف به المتظاهرون من حوران إلى القامشلي، ومن جبلة إلى حلب إلى دمشق، نجح النظام في استثمار ما زرعه مؤسّسه، حافظ الأسد، طوال ثلاثة عقودٍ من حكمه، من أسباب انعدام الثقة بين مكوّنات التنوع الإثنيّ والدينيّ والمذهبيّ والعشائريّ والجهويّ، فكانت الثورة كحجرةٍ ألقيت في بحيرةٍ راكدة، لترتدّ قطرات ماءٍ تقافزت وتبعثرت في اتجاهاتٍ عشوائيةٍ. ولم تتخذ شكل شلالٍ كبيرٍ متدفقٍ معاً في اتجاهٍ واحد.
بكلماتٍ أخرى: اكتشفنا أن الشعب السوريّ ليس واحداً، بل شعوباً أو "أحزاباً" غير متفقةٍ على الحدّ الأدنى من المشتركات الوطنية. ليست غاية هذا المقال محاسبة المكوّنات الوطنية على مواقفها من الثورة، بل محاولة فهم دوافعها وهواجسها وتطلعاتها. ذلك أن محاسبة الجماعات تنطوي على مخاطر كبيرةٍ على مصير الوطن، مقابل المحاسبة الضرورية للأفراد على أفعالهم، وهذا ميدانه القضاء. وفهم دوافع الجماعات مدخلٌ ضروريٌّ لتفهّمها وأخذها بنظر الاعتبار في إعادة بناء الهوية الوطنية التي كانت أحد رهانات الثورة أو رهانها الأهم، أعني الانتقال من "سوريا الأسد" إلى سوريا الجماعة الوطنية السورية.
بالنظر إلى محدودية المساحة الجغرافية التي يعيش عليها كرد سوريا وتبعثرها في جيوب غير متصلة، لم تكن فكرة الاستقلال عن سوريا واردةً لديهم إلا كحلمٍ بعيد المنال، مرتبطٍ من جهةٍ أولى بتحققه في كلٍّ من تركيا والعراق أولاً، وبإرادةٍ دوليةٍ غائبةٍ منذ سايكس بيكو ثانياً. لذلك تشكلت الأحزاب السياسية الكردية في سوريا، منذ أواخر الخمسينات، كامتدادٍ للحركة القومية الكردية في تركيا والعراق، وظلت متسقةً في خطها السياسي معها. ولم تتجاوز في مطالبها رفع المظالم من استعادة الجنسية لمن حرموا منها بموجب الإحصاء الاستثنائيّ للعام 1961، والاعتراف بالحقوق الثقافية وعلى رأسها الحقّ في التعلم باللغة الأم.
كـان من شأن تحقيــق هذه المطالب المحقة أن تزيد من متانة الهوية الوطنية السورية التي شارك الكرد أصلاً في قيامها، إبان الثورة السورية، برمزهم الوطنيّ إبراهيم هنانو، أحد أبطال تلك الثورة. ليس فقط أن تلك المطالب قوبلت بالنكران، بل تم إنكار وجود الكرد كـجماعة إثنيةٍ–ثقافيةٍ متمايـزة، في إطار الإيديولوجيا القومية العربية التي كانت سائدة في تلك الفترة. وكان "الكرديّ الجيد" لدى الرأي العام السوريّ هو الكرديّ الذي فقد لسانه واندمج في الجماعة العربية ثقافةً واجتماعاً، كما هي حال كرد دمشق وحماة وجبل الأكراد في ريف اللاذقية. للمفارقة أن هذا القسم من كرد سوريا "الأصليين"، الذين ينحدر منهم رؤساء للجمهورية كحسني الزعيم وأديب الشيشكلي، وبعض أركان نظام الأسد كمحمد سعيد رمضان البوطي والمفتي الراحل محمد كفتارو ومحمود الأيوبي، يُنظَر إليهم، من وجهة نظر القوميين الكرد، باعتبارهم منقوصي الكردية أو مشكوكاً في كرديتهم. بالمقابل كان الكرد، بوصفهم جماعةً واعيةً بتمايزها، مشكوكاً في وطنيتهم في نظر الرأي العام العربيّ المندرج في الإيديولوجيا القومية العربية.
سوريا ذات الوطنية الهشة أصلاً، وتدهورت هذه أكثر بالمطابقة بين الوطنية والولاء لنظام الأسد (عبّر عنها بـ"سورية الأسد")، تأثرت، بكلّ مكوناتها، بما يحدث في الجغرافيا المجاورة. فكان هناك تداخلٌ دائمٌ بين تموّجات الرأي العام في الداخل السوريّ والأحداث في البلدان المجاورة كالعراق ولبنان وتركيا وفلسطين. من ذلك، التفاعل المتباين مع ضرب نظام صدام لبلدة حلبجة الكردية بالسلاح الكيماويّ. ففي حين شكلت هذه الفاجعة، في الرأي العام الكرديّ، ما يشبه المحرقة اليهودية في الذاكرة الجمعية لليهود، قوبلت بعدم الاكتراث من قبل الرأي العام العربيّ في سوريا، مقابل استثمارها من قبل نظام الأسد في عدائه المديد مع شقيقه البعثيّ العراقيّ.
تكرّر ما يشبه ذلك في انتفاضة آذار 2004، التي ستشكل منعطفاً كبيراً في العلاقات الكردية–العربية في سوريا. الحدث الذي بدأ برفع مشجعي نادي الفتوة الديريّ صور صدام حسين في ملعب القامشلي وشتمهم الزعيمين الكرديين بارزاني وطالباني، ثم تطوّر إلى التنكيل بالجمهور الكرديّ لنادي الجهاد، تحوّل إلى انتفاضةٍ كرديةٍ عامةٍ امتدّت بسرعةٍ إلى حلب ودمشق ومختلف أماكن التواجد الكرديّ في سوريا. واجهها النظام بالحديد والنار، فقتل العشرات واعتقل مئاتٍ قتل بعضهم تحت التعذيب، وتم فصل عشرات الطلاب الكرد من الجامعات السورية.
ليس التعامل القمعيّ المألوف والمتوقع للنظام هو ما شكل الجرح الكبير بالنسبة للكرد، بل تعامل الرأي العام العربيّ، وبخاصّةٍ المعارضة السورية التي كانت للتوّ قد خرجت من السرية إلى العلنية أو شبه العلنية في الفترة المعروفة باسم "ربيع دمشق". فقد اتهمت جهاتٌ معارضة الكردَ بـ"حرق مؤسسات الدولة" وبرفع العلم الكردستاني والنزعة الانفصالية، في حين قام وفدٌ من المعارضة بزيارة القامشلي واللقاء بالفعاليات السياسية الكردية، تعبيراً عن التضامن مع ضحايا القمع (وفقاً لرأي أعضاء الوفد)، ودعوةً "للتهدئة" (وفقاً لاتهامات نشطاء كردٍ للوفد المعارض).
الواقع أن توقعات الغاضبين الكرد من "المعارضة العربية"، في تلك الأيام الساخنة، لم تكن واقعيةً ولا محقة، بالنظر إلى ضعفها وعدم استعدادها لخوض معركةٍ مفتوحةٍ مع النظام، فضلاً عن انعدام المنطق في توريط تلك المعارضة من قبل انتفاضةٍ عفويةٍ اقتصرت على الكرد فقط، مع احتمالٍ قويٍّ لتحوّل الأمر إلى نزاعٍ أهليٍّ عربيٍّ–كرديٍّ لا يريده أحد.
ولكن بالمقابل لم يتمالك الكرد من مقارنة أداء المعارضة مع أداء النظام في جانبه السياسيّ. فعلى رغم القمع الشديد الذي واجه به النظام الانتفاضة الكردية، فقد "باعهم" سياسياً ما كانوا يتوقون إلى سماعه. أعني رفض رأس النظام، على شاشة الجزيرة القطرية، اتهام الكرد بالعمالة لجهاتٍ خارجيةٍ حرّضتهم على التحرك، واعتباره "الكرد جزءاً من التاريخ والنسيج الوطنيّ السوري". وتزامن ذلك مع وعودٍ أطلقها بصدد حلّ مشكلة المجرّدين من الجنسية. في الوقت الذي اجتهدت أقلامٌ معارضةٌ لإثبات أن كرد الجزيرة ليسوا سكاناً أصليين في سوريا، بل نزحوا من تركيا، في فتراتٍ مختلفةٍ، هرباً من قمع الدولة التركية. بصرف النظر عن صحة هذا الادعاء، فهو يتجاوز أولاً واقع النشأة المتأخرة (والمصطنعة) للكيان السوريّ وما يعنيه ذلك من مرونة الحدود التي لا تقتصر على تلك الفاصلة بين سوريا وتركيا، بل تشمل كذلك الحدود مع لبنان والأردن والعراق التي تقسم عشائر متنقلةً وعائلاتٍ متوزّعةً على الجانبين.. والأهمّ من ذلك وأخطر أنه يبحث عن مبرّرات الإحصاء الاستثنائيّ الذي تسبب في مآسي كبيرةٍ لعشرات آلاف الكرد طوال نصف قرن. ومؤدّى ذلك مزيدٌ من التنافر الكرديّ–العربيّ، ومزيدٌ من تعميق الشعور بالمظلومية لدى الكرد، تضاف إلى مظلوميتهم الأصلية في افتقادهم إلى دولةٍ كباقي الشعوب التي انفصلت عن الإمبراطورية العثمانية.
كان لهذه "الرضة الأصلية" المتمثلة في تداعيات انتفاضة آذار 2004، مفعولٌ سلبيٌّ على موقف الكرد من الثورة السورية، تمكنت القوى السياسية الكردية من استثمارها لفرض رؤيتها المتمثلة في أن الصراع بين العرب أنفسهم، وعلى الكرد أن ينأوا بأنفسهم عنه ويقفوا على مسافةٍ واحدةٍ من طرفي الصراع إلى أن تنجلي نتائج المعركة. (ليس هناك نصٌّ مكتوبٌ لدى أيّ حزبٍ كرديٍّ بهذا الوضوح. هذا استنتاجي الخاصّ من سلوكها السياسي). ومع تطوّر الأحداث واتخاذها شكل حربٍ عنيفةٍ يشنها النظام ضد نقاط التظاهر السلميّ، تبلور موقف الحركة السياسية الكردية أكثر ليرى فيما يجري إضعافاً لسوريا ككل، نظاماً ومعارضة، بما يمنح الكرد فرصةً ذهبيةً لتحسين موقعهم التفاوضيّ في الإطار الوطنيّ السوريّ. واتجه "المجلس الوطني الكرديّ" إلى تطوير برنامجٍ يطالب بنظامٍ فيدراليٍّ على غرار كردستان العراق، في حين سيطر مقاتلو الفرع السوريّ لحزب العمال الكردستاني على المناطق الكردية التي انسحب منها النظام بلا قتال، وطوّر سلطة أمرٍ واقعٍ باسم "الإدارة الذاتية" في إطار سوريا موحدة.
هناك رأيٌ عامٌ غالبٌ لدى تشكيلات المعارضة السورية السياسية والعسكرية، مفاده أن pyd "عميلٌ للنظام"، بدلالة قمعه للمظاهرات ضد النظام في المناطق الكردية. الواقع أن هذا الحزب براغماتيٌّ جداً إلى درجة القدرة على تغيير تحالفاته بمرونةٍ شديدةٍ تفقده أي مبدئية، باستثناء ما يتعلق بمصلحته الحزبية الضيقة، وهذه مرتبطةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بمصير قائده الأسير عبد الله أوجالان. مع انطلاق الثورة السورية، رآها الحزب الأوجالاني فرصةً لفرض هيمنته الأحادية على المناطق الكردية في سوريا والقضاء على النفوذ المحدود أصلاً للأحزاب الكردية التقليدية.
وحين تورّطت فصائل من الجيش الحرّ في الهجوم على رأس العين، أواخر 2012، ارتسمت ملامح عداءٍ متبادلٍ سيتعمّق باطرادٍ مع دخول جبهة النصرة ثم داعش على خط المواجهة.
لا يتسع المجال هنا لسرد مزيدٍ من التفاصيل، على أهميتها. مفيدٌ أكثر أن نأتي إلى الخلاصة:
بقدر ما شكل الخراب السوريّ فرصةً للكرد للحصول على وضعٍ أكثر عدالةً، من وجهة نظرهم، في الإطار الوطنيّ السوريّ، بقدر ما كان يجب أن يشكل فرصةً للرأي العام العربيّ ليتخلص من مسبقاته الإيديولوجية ومخاوفه من "النزعة الانفصالية الكردية" في وقتٍ باتت سوريا مهددةً فعلياً بالتقسيم، ليس من قبل الكرد، بل من قبل النظام من جهةٍ، وداعش ومن لفّ لفها من جهةٍ ثانية، والغرب "الخائف على مصير الأقليات" كما يزعم، من جهة ثالثة.
ولكن قبل كل ذلك، على الرأي العام العربيّ أن يتخلص من رهاب "الانفصال الكرديّ". فإذا كانت جماعةٌ إثنيةٌ ترفض العيش معك في إطارٍ وطنيٍّ واحد، فلا يمكنك إرغامها على ذلك إلا بالقوّة والقسر، أي بالحرب الأهلية. وهذا ما يتناقض مع طموحك إلى سوريا ديموقراطية يحكمها القانون ومبدأ العدل. بالمقابل، على الرأي العام الكرديّ أن يفهم أن فرض أمرٍ واقعٍ على الغالبية غير ممكنٍ إلا بالتوافق، وإلا فالحرب الأهلية التي لا يريدها الكرد.