هناك أسئلةٌ عالقةٌ بصدد معركة تلّ أبيض وما تلاها من تداعياتٍ، منها:
لماذا سلّمت داعش تلّ أبيض والريف المحيط بها بلا قتالٍ تقريباً؟
كيف تسلل مقاتلو داعش إلى عين العرب/ كوباني المدمّرة ونفذوا فيها مجزرتهم الرهيبة التي بلغ عدد ضحاياها رقماً مرعباً تجاوز الـ300 قتيل، فضلاً عن الجرحى؟
كيف تمّ السكوت على تقدّم قوّات "وحدات حماية الشعب" المعزّزة بفصائل من الجيش الحرّ حتى دخولها تلّ أبيض، طوال أشهرٍ، لتبدأ بعدها، فجأةً، حملةٌ صاخبةٌ بصدد "تطهيرٍ عرقيٍّ" مزعومٍ في حقّ السكان العرب والتركمان؟
لماذا قرّرت داعش، فجأةً، ترحيل جميع السكان الكرد من مدينة الرقة، مع أن المنظمة الإرهابية تسيطر عليها منذ نحو عام ونصف؟
مع بقاء هذه الأسئلة يلفها الغموض، يبقى أن جهاتٍ ما، صاحبة مصلحةٍ، نجحت في إطلاق حملة كراهيةٍ متبادلةٍ عربيةٍ–كردية، على كلّ وطنيٍّ حريصٍ أن يعمل على وقفها عند حدود التخريب الذي حدث في النفوس والنسيج الاجتماعيّ المتداخل في تلك المنطقة، على أمل ترميمه بأسرع وقتٍ وأقلّ الأضرار.
ليس الوقتُ وقتَ تحديد المسؤوليات أو محاسبة المسؤولين عن التخريب المذكور، فقد ساهم كثيرون، للأسف، وبعضهم من منافيهم البعيدة حيث لا يعرفون ما يحدث، في صبّ الزيت على نار فتنةٍ مرعبة. هناك اليوم مشكلةٌ بحاجةٍ إلى حلّ، وهذا الحلّ ممكنٌ بصفاء النوايا والعمل المخلص.
بداية أيّ حلٍّ تكون بوقف الاتهامات والتحريض المسموم، والبناء على واقعةٍ لا يختلف حولها اثنان هي تحرير تلّ أبيض وريفها، وصولاً إلى عين عيسى، من الاحتلال الداعشيّ. فداعش هي "دولة حربٍ" على الجميع. نظام دمشق الكيماويّ الذي يمكن أن يشكل مصدر خلافٍ، غير موجودٍ في المنطقة. داعش هي العدو المشترك الذي من المفترض أن تتحالف ضدّه جميع القوى الفاعلة على الأرض. نموذج "القوّات المشتركة" المكوّنة من وحدات حماية الشعب الكردية والفصائل المتحالفة معها من الجيش الحرّ، يمكن البناء عليه والتوسع به. وهذا يتيح الاستفادة من المظلة الجوية التي يوفرها التحالف الدوليّ بقيادة الولايات المتحدة، ليس لمصلحة القوّات الكردية وحدها كما حدث في معركة كوباني، بل أيضاً لمصلحة جميع القوى المتحالفة في الحرب على داعش.
ليس سرّاً أن الحكومة التركية لديها همومها المختلفة وأجندتها المختلفة، وخلافاتها مع الأميركيين في الشأن السوريّ باتت معروفةً للقاصي والداني، وهي مستاءةٌ من هذا التناغم بين التحالف الدوليّ والقوات الكردية لأسبابها الداخلية. ولكن ما هي مصلحة السوريين في خلق تناقضاتٍ وطنيةٍ داخليةٍ لا تجلب عليهم إلا مزيداً من المآسي؟ تساق ذرائع بصدد نوايا مبيتةٍ لدى حزب الاتحاد الديموقراطيّ بشأن السيطرة على كامل الشريط المحاذي للحدود مع تركيا والقيام بتغييراتٍ ديموغرافيةٍ في المنطقة غايتها إقامة كيانٍ كرديٍّ مستقلّ. لنلاحظ أن الحديث يدور عن نوايا وليس عن شيءٍ مؤكّدٍ ومعلن. في حين أن حزب الاتحاد الديموقراطيّ يعلن في كل مناسبة عن تمسكه بوحدة الكيان السوري. وفي الواقع مضى على إعلانه "الإدارة الذاتية" في المناطق التي تسيطر عليها قوّاته أكثر من عامٍ ونصف، وبقيت طموحاته السلطوية محصورةً بتلك المناطق، فمارس دكتاتوريته على السكان الكرد ممن يختلفون معه. ولولا تحالف فصائل من الجيش الحرّ (عربيةٍ) معه، لما وجد الغطاء الشرعيّ لتمدده في مناطق ذات غالبيةٍ عربية. رائزه في هذا التمدّد هو التناغم مع الأجندة الأميركية الذي يعوّمه دولياً، بعد عقودٍ من اعتبار حزب العمال الكردستاني منظمةً إرهابيةً في المحافل الدولية.
ويلاحظ، في السلوك السياسيّ للاتحاد الديموقراطيّ، تنوّعٌ يتراوح بين التعايش والتنسيق مع النظام في مناطق (الجزيرة) والتحالف مع الجيش الحرّ في مناطق أخرى، وهو عضوٌ في "هيئة التنسيق" جنباً إلى جنب مع حزبٍ قوميٍّ عربيٍّ كالاتحاد الاشتراكيّ. وفي صراعٍ دائمٍ مع أحزاب "المجلس الوطنيّ الكرديّ" المنضوية في "الائتلاف الوطنيّ" المعارض، وتطالب علناً بنظام فيدراليّ. بوصلة حزب الاتحاد الديموقراطي الثابتة هي زعيمه الأسير في جزيرة إيمرالي عبد الله أوجالان، وقيادة حزب العمال الكردستاني في جبل قنديل. كلّ ما عدا ذلك قابلٌ للتغيير لدى هذا الحزب البراغماتيّ.
على أيّ حالٍ، نحن اليوم أمام واقعٍ جديدٍ يتمثل في سيطرة وحدات حماية الشعب، مع الفصائل الحليفة، على تلّ أبيض. ونظراً للاتهامات التي يواجهها الحزب، بات عليه أن يثبت بطلان تلك الاتهامات بصورةٍ عمليةٍ. أي أن يفي بوعوده بتسليم المدينة لإدارةٍ مدنيةٍ ينتخبها السكان وتتمثل فيها مختلف المكوّنات المحلية من عربٍ وكردٍ وتركمانٍ وغيرهم. بحيث تتموضع القوّات المسلحة خارج المدينة. وقبل الوصول إلى هذه الترتيبات التي قد تحتاج إلى بعض الوقت، إلى حين عودة النازحين إلى بيوتهم، يجب العمل بجدّيةٍ لدخول منظماتٍ محايدةٍ لمراقبة الانتهاكات المحتملة في حقّ السكان، سواء من الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية المستقلة المعنية بحقوق الإنسان. فهذا مما يساهم في وأد الفتنة وتطبيع الحياة العامة في مرحلة ما بعد داعش.
لا خيار أمام سكان هذه المناطق المتداخلة عرقياً إلا التعايش.