رحل الكاتب الكرديّ-التركيّ الكبير يشار كمال، عن 92 عاماً، بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض. يمكن القول إن قلةً من الكتاب يمكن أن تُجمِع تركيا، بكلّ تنوّعها وتناقضاتها الداخلية، على الحزن على رحيلهم. هذا ما حدث بالنسبة لـ"يشار آبيه"، كما يكنّى تحبباً، بالنظر إلى عمره وعمره الأدبيّ الذي أتاح لأجيالٍ عدّةٍ من مثقفي تركيا أن يتربّوا على أدبه وعلى القيم التي بثها فيه.
قــــرأتُ "إينجة مـــيمد" ("محمد الناحل" في الترجمة العربية) في سنّ اليفاع، وكانت من الروايات التي أثرت بي بقوّة. تجوّلتُ، مع ذلك الهارب الصغير من ظلم الآغا، في مستنقعات "تشوكوروفا" المميتة بحرِّها وببعوضها الضخم "ذي العظام"! وفي جبال طوروس الشاهقة ومرتفعات "آنافارزا" الصخرية القاحلة، حيث لا تعيش إلا النسور والجوارح. غطستُ، إلى خصري، في المستنقعات. وحملتُ بندقيتي وجعبة ذخيرتي ومضيتُ من جبلٍ إلى آخر ومن وادٍ إلى حرشٍ، بلا طعامٍ وماءٍ لساعاتٍ طويلةٍ إلى أن أصل إلى قريةٍ آمنةٍ من ظلم "عبدي" آغا وعناصر الدرك، فأنال كسرة خبزٍ وساعة نوم.
هكذا دخلتُ عالم يشار كمال، في عمرٍ لم يُتح لي بعدُ الكثير من القراءات. شكلتِ الملحمة البطولية لإينجة ميمد، بالنسبة إلى وعيي الطريّ، امتداداً لقصص الأطفال التي تنقسم شخصياتها بين ممثلي الخير وممثلي الشرّ. لكن "إينجة ميمد" لم يكن بطلاً إيجابياً مجرّداً تجريد فكرة الخير، بل شخصاً عادياً، ممعناً في العادية، في بيئةٍ ممعنةٍ في الواقعية تشمّ رائحتها وترى ألوانها المختلفة عن ألوان صور كتب الأطفال. ليس لدينا، في عالم يشار كمال، الأحمر المجرّد أو المحض، ومثله الأبيض والأخضر والأزرق وباقي ألوان الطيف.. بل لون التراب ولون الحجر، لون الغصن اليابس ولون تلك العشبة المحدّدة الأخضر، وتدرّجاتٌ مختلفةٌ من الرماديّ والقرميديّ والأزرق.. لون المطر، في رواياته، على سبيل المثال، يتحوّل من الأصفر الباهت إلى الأخضر المعتم إلى الأرجوانيّ! لون البحر، في رواياته، ليس أزرق! وللغيمة أطوارٌ مدهشة. تعلمتُ "قراءة" الغيوم من يشار كمال!
بيئة يشار كمال الاجتماعية لا تختلف كثيراً، في إدهاشها، عن بيئته الطبيعية الموصوف بعض وجوهها أعلاه. إنه عالم القرى الصغيرة الضائعة بين الجبال في معزلٍ عن العالم الكبير. بشرٌ من لحمٍ ودمٍ يكافحون، بإمكاناتهم ومواردهم المحدودة، شظف العيش وقسوة الطبيعة وظلم نظام الإقطاع المدعوم من الدولة (ممثلةً بالدرك أو الجندرمة). هؤلاء المسلحون الشرعيون مهمتهم الوحيدة هي تأمين خضوع الناس للسيد صاحب الأرض، وقمع أية شرارة تمرّدٍ فيهم عند الحاجة. في الواقع، لا يحتاج عبدي بيك كثيراً إلى الدولة ومسلحيها الشرعيين، بل لديه أزلامه المسلحون ("شبّيحته" بلغة زمن الثورة السورية) من بين شبان تلك القرى نفسها، يقومون بحمايته ويتنمّرون على بؤساء تلك القرى الجبلية النائية. فقط حين يخرج الأمر على سيطرته، تدخل قوّات الدرك على الخط مباشرةً.
رغم انتمائي إلى بيئةٍ ريفيةٍ جبليةٍ كرديةٍ في أقصى الشمال السوريّ، كان عالم "إينجة ميمد"، بالنسبة إليّ، أقرب إلى الخيــــال والأسطــــورة، خيال وأسطورة شديدا الواقعية! بل أكثر واقعيةً من العالم الذي أعرفه بحواسي المباشرة. قد لا تكون شخصــــيات الروايــــة أو مجرى الأحـــــداث الاعتيادية في حياتها هو الخياليّ، ولا حتى تلك البيئة الطبيعية التي لم أعرفها بصورةٍ مباشرة. ما يضفي الخيالية، وبالقدر نفسه الجاذبية الشديدة، على عالم يشار كمال إنما هو روح التمرّد في أبطاله. التمرّد في وجه الظلم ودفاعاً عن غريزة الكرامة البشرية.
تجوّل يشار كمال، سنواتٍ، في سهول الأناضول وجبالها، يصغي إلى حكايات الفلاحين وأساطيرهم الشفوية المنقولة عبر الأجيال، ووظّف كلّ ذلك في نسج رواياته وقصصه. فكانت هذه النتيجة الغريبة: تحوّلت حكاياته، وتحوّل أبطاله بدورهم، إلى أساطير حديثةٍ تتناقلها الأجيال. أكثر من مرّةٍ شاعت أخبارٌ، تناقلتها الصحف، عن "العثور على قبر إينجة ميمد الضائع"! ففي كلّ جزءٍ من أجزاء الرواية التي تحوّلت، عبر عقودٍ من السنوات، إلى رباعيةٍ، تنتهي السردية بموتٍ ملتبسٍ لإينجة ميمد، ليبعث من جديد في الجزء التالي، وهكذا.. كان الكاتب الراحل يعلق على تلك الشائعات باسماً: "لا يمكن لإينجة ميمد أن يموت! لا يمكنكم قتله!".
صحيح. فالتمرّد على الظلم، والدفاع عن الكرامة، والتوق إلى الحرية، لا يمكنها أن تموت. لا يمكن لأحدٍ أن يقتلها! مات يشار كمال، عاش إينجة ميمد!