- الرئيسية
- مقالات
- رأي
في الهدنة..امتحانٌ آخر أم فرصةٌ لالتقاط الأنفاس؟
يحقق اتفاق الهدنة بين نظام الأسد وفصائل المعارضة السورية المسلحة مكاسب هامةً للمعارضة تبدو في أمسّ الحاجة إليها في ظلّ النكسات العسكرية المتتالية التي منيت بها، وحالة الخذلان من أصدقائها المزعومين، وتنمّر داعمي بشار الأسد وولاة أمره.
فتغدو أيّ فرصةٍ تتاح لأذرع الثورة المقاتلة لوقف إطلاق النار، والحفاظ على ما تبقى من أرضٍ في حوزتها، فرصةً ثمينةً ينبغي عليها التمسك بها، مهما كان شكل المقترح السياسيّ المطروح كحلٍّ بعيد، إلى حين التغيّر المأمول، مع الإدارة الأميركية الجديدة، لموازين القوة على جبهات الصراع وبين الأطراف المعنية بالشأن السوريّ.
ينطوي توقف الحرب عند خرائط السيطرة الراهنة على مصلحةٍ من مصالح الثورة لأنه يعطّل سياسة التهجير الجماعيّ التي يزمع النظام تطبيقها في كلّ الجيوب والمدن المحاصرة، مثلما فعل في بعض مدن الريف الدمشقيّ والجزء المحرّر من مدينة حلب، ولأنه يمنع آلة القتل في يد النظام من إزهاق المزيد من الأنفس في صفوف السكان المدنيين في المناطق المحرّرة، ويمنح القوى الثائرة -من غير المقاتلين- القدرة مجدداً على استعادة دورها الذي قوّضته الحرب وحماقات بعض الفصائل المسلحة وغطرستها. وعلى هذه الفصائل وغيرها أن تغتنم الوقت لمراجعة الذات وتكفّ عن الأوهام وتتذكر، أو يتذكر قادتها، أن أصل كل ما جرى ويجري كان انتفاضةً ضد الظلم والفساد وطلباً لأهدافٍ شديدة الوضوح في الحرية والكرامة والمساواة، لم يكن بينها ولن يكون أهدافٌ أو مشاريع أخرى. يصعب التنبؤ هنا بذكاء هؤلاء ووعيهم وقدرتهم على تعلم الدروس، لكن، ووفق ما مرّ من تجارب كانت مؤسفةً على الدوام، يجب على قوى الثورة بأشكالها كافةً ألا تراهن مرّةً أخرى على حكمة من أسهم في تكريس دعاية النظام، وكاد يجعل من أكاذيبه حقيقةً بأنه «يواجه إرهابيين فحسب».
استثنى الاتفاق جبهة فتح الشام وغيرها من الحركات والجماعات المصنّفة على قائمة الإرهاب من الهدنة، دون أن يحدّد الأسلوب العمليّ للتعاطي مع هذا الاستثناء. لكن مع ما يتسرّب من أنباءٍ غير مؤكدةٍ ستكون مقرّات الجبهة والفصائل المستثناة، ونقاط تمركزها، أهدافاً للهجمات الجوية فقط. لن يفوّت طيران الأسد هذه الفرصة لإلحاق أكبر قدرٍ من الأذى بالسكان أو بمقرّات الفصائل المشمولة بالهدنة قرب هذه الأهداف، ما قد يفرغ الاتفاق كله من محتواه، ويمحو منعكساته البناءة على الأرض، ويرفع من درجة الاستقطاب بين القوى المستثناة وتلك المشمولة بالاتفاق، ويعزّز من احتمالات الاقتتال بينها، وهي الاحتمالات القائمة على أيّ حال.
وإن سلوك الفصائل المسلحة، ثم قوى الثورة الأخرى، وشكل استجابتها لجملة تحدياتٍ ومخاطر ناشئةٍ ينفتح عليها الباب مع استقرار الهدنة، إن تحقق، سيحدّد، إلى جانب عوامل أخرى، فشل رهانات النظام في الاتفاق أو نجاحها. فهو يستطيع الآن أن يفعّل أذرعه المزروعة في بنى الثورة وفي عمق المجتمعات الحاضنة لها لتعيد من تتمكن من إعادته إلى بيت الطاعة على شكل مصالحاتٍ وتسويات وضع، ولنا في ما يُسمع أو يحدث في درعا بين حينٍ وآخر مثالٌ قد يتكرّر في مدنٍ وبلداتٍ وقرى أنهكها الموت والجوع وتبدد الآمال. وليس سراً عودة النظام كخيارٍ مطروحٍ في وعيٍ عامٍّ لأوساطٍ مجتمعيةٍ معظمها وجد نفسه فجأةً في بيئاتٍ محرّرة، ولم يجتذبها نموذج الثورة وقت تألقه لتصبر عليه اليوم وقت الانكسار. ومثلها زمرة الانتهازيين في صفوف الثورة وغيرهم من المفلسين أصلاً أو عرَضاً من القيم الملهمة للصمود.
لن تشكل هذه الهدنة نهاية المطاف، وستندلع النيران مجدداً. فقد يعجز الضامن الروسيّ عن الوفاء بتعهداته حتى لو أخلص لها، وسوف تظل لإيران، غير المستسيغة للاتفاق، القدرة، متى اضطرّت، على نسف ما اتفق عليه وإشعال الحرب ثانية، مما يفرض على الفصائل المقاتلة أن تستعد وتعيد تشكيل ذاتها في جسمٍ أو أجسامٍ موحدةٍ ومهنيةٍ ومنضبطة، وأن تتحلى بالوعي وبالمسؤولية لتدرك الأهوال المحدقة والمآلات الأليمة التي يراد لهذه الثورة أن تؤول إليها.
يفسح اتفاق الهدنة، إن صمد، المجال لأن تُطرح الثورة مرّةً أخرى كمشروعٍ وطنيٍّ إن أحسن الثوار استثمار الفرص التي يتيحها الاتفاق، وإلا ستحمل الأشهر القادمة المزيد من الانحدار.
__________________________________