- الرئيسية
- مقالات
- رأي
في أسباب انتشار التيار الإسلاميّ بين فصائل الشمال السوريّ ومحدوديته في الجنوب
اختلفت ديمغرافيا القوى التي تمثل الثورة[1] في الجنوب السوريّ عنها في الشمال، حيث انجلت الصورة الأخيرة للقوى المسيطرة اليوم عن لونٍ إسلاميٍّ تغلب عليه القوى التي تصنّف بحسب النظام العالميّ كقوىً متطرفة، في حين ما زال الجيش الحرّ يعتبر القوة رقم واحد في الجنوب، من حيث العدد والعدة والحضور الجغرافيّ وعلى مستوى الحاضنة الشعبية، رغم ما يشوب حركة عناصره من مظاهر عدم الانضباط أحياناً، في حين تعيش الحركات الإسلامية حالة ضمورٍ وتراجع.
يعيش دواعش[2] الجنوب في حصارٍ بعد الامتداد المفاجئ الذي نجحوا فيه صيف عام 2015، وتتفاقم حالة تراجعهم في ظل تنامي ميلٍ كارهٍ لهذا التوجه بعد عملياته الوحشية وما تخللها من ممارساتٍ ضد أسرى وعناصر الجيش الحرّ. وفي تصوري فإن ما يطيل عمر هذا الوجود هو انعدام العقيدة القتالية -في ما يتعلق بهذه المعركة- لفصائل الجيش الحرّ، ونقص جدية قادته، وعدم وعيهم لمخاطر استمرار هذا الوجود والنزيف المستمرّ الذي يمثله، ودوره في تدهور الروح المعنوية لعناصرهم وما يمكن أن يترتب على ذلك من عقابيل على الثورة والمنطقة.
كذلك فإن جبهة النصرة، التي شهدت قمة تألقها في السنوات الماضية، تعاني تراجعاً ملحوظاً في أنحاء كثيرةٍ من درعا، خاصّةً في المناطق التي كانت تعدّ حواضرها وحواضنها الرئيسة. وقد صبّ هذا النزيف الذي عانت منه النصرة في طاحونة الدواعش لدى الناس الأكثر حماساً واستعجالاً، حتى بداية المعارك حيث توقف. وكذلك عانت النصرة من النزيف لصالح الجيش الحرّ لدى الذين تمكنوا من رؤية الهوة الواسعة بين الشعارات التي ترفعها الجبهة وممارساتها المنغمسة في أوحال الواقع وملابساته. كما أن فريقاً ثالثاً اتخذ قرار العمل الحرّ أو المشاركة المستقلة الكيفية في المعارك دون أن يتبع أيّ فصيل، وكثيرٌ من هؤلاء اتخذ هذا الموقف إثر مشاركة النصرة في قتال لواء شهداء اليرموك قبل أن تتضح صلته بداعش.
وليست حركة أحرار الشام أحسن حالاً، فقد عانت هي الأخرى من التراجع والضمور، رغم أن المشاعر العامة أقل عدائية تجاهها مقارنة بالدواعش والنصرة.
ما نريد قوله إن اللون الإسلاميّ، خاصة المتطرّف منه، لم يتمكن من صبغ المشهد العام في الجنوب كما هو في الشمال. وإذا كان لطبيعة المنطقة الجيوسياسية تأثير في ما يتعلق بإيقاعات العمل العسكريّ، ونوعية المعارك، وتوقيتها، واتجاهاتها؛ فإنه مما لا شك فيه أن هذا لا يؤثر كثيراً على البنية الأيديولوجية. فالفصائل التي أحدثت الفرق الأكبر في ما يتعلق بانشقاقات الجهد الثوري وبعثرته في الشمال لها امتداداتٌ وحضورٌ في الجنوب، لكنها رغم ذلك لم تتمكن من التحول إلى قوةٍ قادرةٍ على السيطرة على الساحة وشغل البيئة العسكرية والأيديولوجية في المنطقة الجنوبية كما حدث في الشمال، حيث تبين الخرائط العسكرية تبدل حضور الجيش الحرّ من رقمٍ وحيدٍ يشغل الساحة كلها إلى وجودٍ متآكلٍ قارب حدود الانقراض قبل عملية درع الفرات. وحدث هذا التضاؤل لصالح القوى التي تصنّف متطرفة، بل إنها من لعب الدور الأساسيّ في هذا التآكل. ففي الوقت الذي حدد فيه النظام الجيش الحرّ كعدوٍّ أساسيٍّ يجب التخلص منه لحصر المعركة بين جيشه وبين الفصائل الإسلامية، كي يعزز سرديته في أنه يقاتل التطرّف؛ لم تتردد هذه الفصائل في قتال الجيش الحرّ والاستيلاء على مواقعه وموارده كلما أمكنها ذلك بذرائع مختلفةٍ ومختلقةٍ لم تعدمها يوماً. وهكذا وجد الجيش الحرّ نفسه أمام عدوّين توحدت مصالحهما ضده.
وأعتقد أن اختلاف الصورة في ما يتعلق باللون الإسلاميّ بين شمال البلاد وجنوبها يعود إلى الأسباب التالية:
- طبيعة التدين في المجتمع الريفيّ في درعا، حيث ينتشر نوعٌ من التدين الطقوسيّ البسيط غير المسيس، المدين أساساً إلى نوعٍ من رجال الدين متواضعي التحصيل العلميّ، الذي يقتصر على فقه العبادات وبعض القرآن، ووظيفتهم إقامة الشعائر والطقوس، مقابل أجرٍ ماديّ، في مجتمعاتهم الصغيرة، وليست لهم همومٌ أبعد من القيام بهذه الوظائف الصغيرة والحصول على جعالاتهم القليلة، مقارنة بما يمكن أن يحصل عليه امثالهم في مجتمع المدينة. ولذلك فإن كل الذين تمكنوا من تحصيلٍ علميٍّ معقولٍ من أبناء درعا عاشوا في مدينة دمشق، فمن معظم قرى درعا توجد أسماء في الحقل الدينيّ لها حضورٌ متميزٌ في دمشق[3] وهم بالكاد يُعرفون في قراهم.
- طبيعة جماعة الإخوان المسلمين كحركةٍ ركّزت على البيئات المدينية المحافظة ولم تشتغل كثيراً على الأرياف، بل نشطت في الحواضر التاريخية المعروفة، في مدن الوسط السوري دمشق وحمص وحماة وحلب وإدلب إلى حدٍّ ما. وتمكن ملاحظة هذا التشوه الفظيع في نشاط الحركة الأم من خلال ملاحظة اللوحة الاجتماعية الدينية في مصر، فرغم أن جماعة الإخوان تسوّق نفسها كحركة بعثٍ إسلاميٍّ فوق وطنية، ورغم حضورها الكثيف في الساحة السياسية المصرية في العاصمة وبعض الحواضر الكبرى، فإن مدارس تحفيظ القرآن في الصعيد تفتقر إلى المعلمين إلى درجة أن يتولى رجلٌ مسيحيٌّ هذا الأمر[4]، كما يوجد في الصعيد مسلمون لا يعرفون قراءة الفاتحة[5]. كذلك فإن الحضور السلفيّ الذي تلا الفورة النفطية كان له تأثيرٌ محدود، فجلّ الذين حملوه من الخليج عمالٌ محدودو التأثير.
- أحداث الثمانينيات وما خلفته من ضغينةٍ طائفيةٍ وجروحٍ غائرةٍ في الوجدان الجمعيّ في المناطق الشمالية. فقد كان للحرب الطائفية التي قادها (الجيش) في القرن الماضي، وما ارتكبه من مجازر وأعمال تنكيلٍ وحملات إذلال -بما يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ ما حدث في عموم سوريا بعد ثورة 2011- أعظم الأثر في تغذية الشعور الطائفيّ. فقد كان معظم قادة الجيش من لونٍ طائفيٍّ واحد، وعاملوا مواطنيهم معاملةً تتصل بالانتقام الطائفيّ أكثر بكثيرٍ مما تتصل بدواعي الأمن وضروراته. ولم يحدث ما يشبه هذا الأمر في درعا، فقد كانت الحوادث الأمنية محدودة، واقتصرت أساساً على المدينة وبعض الحواضر، وطالت أساساً جيل الثمانينات الجامعيّ وبعض الأسر. أما القمع فقامت به أجهزة الأمن، ولم يتدخل الجيش ولم تحدث المشاهد التي شهدها الشمال. الدور الآخر الذي لعبته أحداث الثمانينات هو أنها هجّرت النخب والكفاءات في الشمال، ومع عودة هذه النخب بعد الثورة، ومع ما تمتلكه من القدرة على التأثير وما تحمله من نزعةٍ إسلاميةٍ بحكم البيئة التي كانت تعيش فيها، والذاكرة التاريخية التي تحملها؛ كل ذلك أسهم في تغليب اللون الإسلاميّ، وخاصةً السلفيّ الجهاديّ، في الشمال، والذي يعتبر التيار التكفيريّ تطوراً عنه يختلف في الدرجة وليس في النوعية.
- التباين الطائفيّ كثيف الحضور في الشمال السوريّ، والذي تتخلله مظلوميةٌ تاريخيةٌ تلبس اللباس الطائفيّ بين سكان المدن والأرياف، رغم أن هذه المعاناة كانت تمتد على كل الجغرافيا السورية، فقد وجدت في درعا على سبيل المثال: حيث البكوات والأغوات ملاك الأرض يأكلون جهد الفلاحين. لكن غياب الاختلاف الطائفيّ بين المدن والأرياف لم يخلف مثل هذه المظلوميات بين السكان، بينما في الشمال، حيث تسيطر طوائف مختلفة على كلٍّ من الأرياف والمدن، كانت للمرارات تفسيراتٌ مختلفةٌ وأعماقٌ أكثر شدةً وكثافة. ففي حمص وحماة وإدلب واللاذقية وطرطوس غذت المشاعر الطائفية في كلا الاتجاهين هذه المرارات، فشحنت علاقة مالك الارض الجائرة بالفلاح بحمولةٍ طائفيةٍ تحمل مظالم التاريخ، إضافة إلى حمولتها الحاضرة التي أيقظتها أحداث الثمانينيات وغذتها.
خلاصة القول: يعود اختلاف ألوان القوى المسيطرة إلى أسبابٍ تلعب فيها الحركة الإسلامية دوراً محدوداً جداً، وهي منفعلةٌ فيها أكثر منها فاعلة. وإن أكثر الأثر الذي تركته إنما يعود إلى مجرد حضورها، وتاريخها، وليس إلى اختياراتها الحية وتأثيرها الفاعل المباشر. وهذا يؤكد ما أعتقده في ما يتعلق بمسار الحركة الاسلامية عموماً، من أنها فشلت في تجديد أجهزتها المفهومية عندما تطلبت الظروف الموضوعية منها ذلك، ولذلك فشلت في التحرّر من تاريخها، ومواجهة أخطائها، وتحديد خياراتٍ سياسيةٍ تعزز مساراتها وتحقق أهدافها وتوفر الأثمان على حاضنتها.