- الرئيسية
- مقالات
- رأي
غياب السياسة في سورية وآثاره المدمّرة
ليس فقط المهتمون بالشأن العام، كما يُطلق عليه، وإنما صار الكثيرون يدركون أثر غياب السياسة عن المجتمع السوريّ. بمعنى اهتمام ومشاركة الناس، جميعهم أو غالبيتهم، في صنع القرار في بلدهم، وإمكانية التفكير في، أو القدرة على، محاسبة المسؤولين في حال ارتكابهم الأخطاء، دون التعرّض لأي شكلٍ من أشكال العقاب الجسديّ والمعنويّ.
بالطبع، صار معروفاً أن نظام الاستبداد الأسديّ، طيلة أكثر من أربعة عقود، عمل عن قصدٍ وبكل الوسائل العنيفة والناعمة على إقصاء الناس عن الاهتمام بشؤون حياتهم العامة وحقوقهم. ومنذ استيلاء العسكر على السلطة كان التوجه واضحاً، الاحتواء أو الخنق، بدءاً من الرشاوى إلى شراء الولاءات والذمم وتشكيل شبكات المحسوبيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تدور في فلكه من جهة، ومن الجهة الثانية استخدام وسائل العنف والقسر المتعددة، من الاعتقال حتى الموت، تجاه الذين رفضوا قاعدة الإخضاع التي يفرضها على الجميع.
كانت نتائج هيمنة العسكر ومخبريهم على المشهد السياسيّ كارثية، إذ أبرزت الغياب شبه التام للسياسة ومن ثم لاستراتيجيات وأدوات العمل السياسيّ، ما أعاق ممارستها بمحدداتها الطبيعية كعمليةٍ سلميةٍ هدفها إدارة الصراع بين قوى المجتمع وصولاً إلى تحديد ما هو الصالح العام وكيفية التوصل إلى توافقٍ حوله، مما يجعلها عمليةً أخلاقيةً ونفعية، ذات منظومةٍ من الضوابط والحوافز، في سعيها نحو البحث عن مساحاتٍ مشتركةٍ بين الفرقاء، ورفض العلاقات المطلقة خارج الوقائع، والتي كثيراً ما تؤسّس للنزوع نحو الاستبداد، وصولاً إلى خنق الآخر وإلغاء الحالة الطبيعية للمجتمعات وهي التعددية والاختلاف.
مع اندلاع الثورة اتضح أن النظام، بتركيبته العائلية والطائفية، لن يتعامل بشكلٍ سياسيٍّ مع شعارات المتظاهرين بوصفها مطالب تمثل هموم أغلب الناس وتتلخص في الحرية والكرامة، بل كان خياره استمرار عملية نفي المجتمع التي تتلخص في استخدام كل أشكال المواجهة مهما كلفت البلد بما فيها حرقه، وفقاً للمقولة التشبيحية المعروفة: «الأسد أو نحرق البلد». ولذلك فقد بنى استعداداته اعتماداً على الخيار الأساسيّ: إقصاء جميع من لا يخضع لمنظومته وبكل الوسائل.
نتيجة تلك الخيارات التدميرية والمفرطة في استخدام العنف التي انتهجها النظام منذ البدايات، زمن التظاهرات السلمية، تطورت مسارات الثورة لاحقاً نحو أشكالٍ من المواجهة العنيفة أو ما يطلق عليه «العسكرة»، بمعنى مواجهة قوات النظام بالسلاح كوسيلة دفاعٍ أولاً، ثم كطريقة تحريرٍ لمناطق جديدة، واعتماده مؤخراً كوسيلةٍ وحيدةٍ لمواجهة النظام.
راقت هذه المرحلة، أو تناغمت مع عقلية الإسلاميين الجهاديين الذين وجدوا، نتيجة ظروفٍ وأسبابٍ عدة، أن بإمكانهم مواجهة النظام لامتلاكهم رؤيةً نظيرةً لرؤيته، فلديهم التصوّر الكامل عن نمط الحياة وهو مستوحىً من السلف، وفي الحياة الآخرة هناك الجنة لأنهم يجاهدون في سبيل الله. بمعنى أن تصوّرهم يجيب إلى حدٍّ كبيرٍ عن أسئلة الدنيا والآخرة، هذه الرؤية الشاملة جعلت منهم شريكاً في تغييب الحياة العامة لصالح الحياة التي تفرضها «الجماعة» وفق فهمها للشريعة الإسلامية.
توّجت هذه المرحلة المستمرّة منذ حوالي خمس سنواتٍ بمصادرة الحياة العامة، تحت سيادة لغةٍ وحيدةٍ للتحاور وهي لغة السلاح، إذ انتقل الصراع إلى مستوىً آخر لا يقبل فيه أيّ طرفٍ الآخر، بل يعتمد في وجوده على نفيه. ولم تقتصر تلك العلاقة على النظام ومعارضيه، بل انتقلت إلى الوسط المعارض ذاته.
في هذا المستوى، الذي طبع المرحلة بلغته، كان الخطاب السياسيّ مرافقاً وتابعاً للحال العسكريّ على الأرض، طالباً بتملقٍ ودّه ورضاه، متخلياً بشكلٍ طوعيٍّ عن مجاله لصالح غيره، مما أفقد الثورة مجالاً حيوياً يمكن أن يحفز المجتمع بشكلٍ لا يقل عن غيره من المجالات إن لم يكن أهمها. إلى درجةٍ تراجعت معها العملية السياسية إلى شكلٍ مبتذلٍ ينحصر في حيزٍ ضيقٍ لا يتعدى غرف المساومات لصالح الغير أولاً، ولصالح البلد في حال تقاطعت مصلحتها أو كانت ضمن اهتمام الغير.
لقد أسس النظام، ونجح تماماً، في إلغاء الحياة العامة، أي السياسة بمعنى العلاقة المدنية بين البشر وتنظيماتها وفق قواعد تتيح للجميع التعبير عن آرائهم مهما كانت درجة الاختلاف والمغايرة، والإقرار ثانياً بالسعي إلى التفاهم والتعاون بينهم وصولاً إلى حلولٍ وسط ناتجةٍ عن تسويةٍ ما. فالسياسة في النهاية هي عمليات صراعٍ وتسوياتٍ مؤقتةٍ أو دائمة، وليست ممارساتٍ عقائدية.
لم تكن الأحزاب التقليدية المعارضة بكل تلاوينها (يسارية وقومية وإسلامية) بعيدةً عن ذلك، فعدا عن تخندقها وراء أيديولوجياتها كانت نزعاتها النخبوية تعيق مشاركتها في الحياة العامة ما لم تضمن مكان الصدارة. والأيديولوجيا كفيلةٌ بإيجاد التبريرات لها كأحزابٍ طليعيةٍ أمام شعبٍ ومجتمعٍ متأخرين وفي حاجةٍ إلى طليعةٍ من نوعٍ ما وبمواصفاتٍ محددةٍ لنقل وعيها إليه، أو لتثويره. هذا الوعي الذي تعجز العامة عن إدراكه دون وسيط، وشكل الوسيط متغيرٌ من النخبة إلى الطليعة إلى القيادة، دون نسيان دور الإمام، وكلهم معصومون عن الخطأ. ولسوء حظ هذه النخبة لم تسعفها السنين في تثوير أحد، فعندما أتت اللحظة الثورية في سورية وغيرها من البلدان العربية كانت أولى كلمات خطابها أنها فوجئت!
وأمام مفاجأتهم ونزعاتهم النخبوية وبنيتهم الهرمة، كان من الصعب على قادة هذه الأحزاب النخبوية السير خلف الشارع وتشكيلاته المختلفة جوهرياً عن بنيتهم، وهم المحكومون بأن يكونوا قيادةً وطليعة، فاتسمت علاقتهم بالثورة بالشك والريبة، ولم ترتق أبداً إلى مستوى المشاركة التي تقتضيها آلية العمل السياسيّ.
أما الفصائل العسكرية، التي تكاثرت بشكلٍ لا مثيل له رغم الاعتماد على عقيدةٍ واحدةٍ هي الإسلامية، فكان من مصلحتها أن تبعد البشر عن ممارسة حقهم ما لم يشاركوا في العمل الذي اختارته، وهو العسكريّ، رافعة خطاب المواجهة المسلحة إلى مرتبة التقديس بحجة العنف المفرط للنظام، وهي على حقٍّ في جزءٍ من ذلك، لكنها استثمرت فيه بشكلٍ خاطئ، لأنها ابتعدت إلى درجاتٍ تصل حدّ الانفصال عن القاعدة الحقيقية للثورة، متناسية، عن قصدٍ أو عن جهل، أن المشاركة الشعبية هي الكفيلة والضامنة لاستمرار المقاومة بكل أشكالها، وأن حصرها بطريقٍ واحدٍ يضعفها، في أحسن الأحوال.
كان إقصاء الناس عن المشاركة في تقرير مصيرهم هو سياسة الأنظمة الاستبدادية، ولكن يبدو أن النظام الأسديّ استطاع أن يزرعها بين معارضيه. فعداؤنا للنظام ليس أعمق من الكراهية والتنافر اللذين نتبادلهما، وهما ركيزتان أساسيتان من دعائم استمرار النظام.
إن الدعوة إلى ممارسة السياسة تكتسب أهميتها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، بمعنى التشارك في صنع القرار وفق مصالح البلد والمخاطر التي تجتاحه أولاً وأخيراً -وليس وفق النظريات والأيديولوجيات التي تخفي مصالح ضيقةً لأصحابها- ما يفتح الباب بشكلٍ جديٍّ للتشارك بدل التنافر وتبادل الاتهامات، ولتعزيز الثقة بدل الكراهية والشك. وكل ذلك بغايةٍ واضحةٍ ووحيدةٍ وهي معالجة ما يحدث في البلد من عمليات قتلٍ ممنهجةٍ حصدت أرواح مئات الألوف، وما تلاها من خططٍ لبلدنا. فغياب السياسة كانت له الكثير من العواقب، إذ لم يستطع «السياسيون»، أحزاباً وجماعات، أن يقدموا تصوراً معقولاً ومستقلاً إلى حدٍّ ما للمشاكل التي يواجهها الناس، واكتفوا بتصريحاتٍ وبياناتٍ تلفزيونيةٍ محفوظةٍ عن جرائم النظام ووحشيته، دون خطةٍ سياسيةٍ واضحةٍ ومقنعةٍ للناس أولاً وللدول ثانياً. وربما يفسر هذا جزئياً تراجع الدعم الشعبيّ والدوليّ للثورة السورية، واعتماد رأيٍ أوروبيٍّ وأميركيٍّ أنها حربٌ أهليةٌ وطائفية، ناهيك عن الموقف الروسيّ.
لن ينهي ما وصلنا إليه -رغم مرارته- الحياة فينا، وبالتالي لا بدّ للجميع أن يشاركوا وأن يقرروا، ومن حقهم تماماً إسماع أصواتهم، والمطالبة بإصلاح المؤسسات السياسية التقليدية التي اكتسبت شرعيةً من نضالات الثوار في المقام الأول، وذلك بتفهم الحالة التي نعيشها والظروف المحيطة والإمكانيات المتاحة والسبل الممكنة لتحقيق الهدف المتمثل في الخلاص من الاستبداد. واضعين في أذهاننا ألا أحد بمفرده يمتلك الصواب، وإنما يمكن للجميع النقاش والمشاركة في التوصل إليه، وأن الممارسة والوقائع هي من تصحح التصورات وتبنيها بشكلٍ مستمرٍّ وفق منطقٍ يأخذ المخاطر الكبيرة التي تحيط بالبلاد والعباد في اعتباره الأول، بعيداً عن الكراهية والسجالات العقيمة التي لا تفيد إلا في تقوية من يقتلنا.
فالابتعاد عن الصراعات الحزبية الضيقة والمصالح الفئوية التي زرعها فينا نظام القمع، وصارت حدوداً تميزنا، هو أولى الخطوات نحو ممارسة السياسة، بمعنى نفي العقائد والأيديولوجيات من الخطاب السياسيّ العاجز والانتقال إلى خطابٍ سياسيٍّ برامجيٍّ تكون هموم الناس وحقوقهم هي ما يرسمه ويؤطره، لا النظريات مهما كانت مرجعيتها.
يتطلب منا هذا تقوية ثقتنا بأنفسنا، وبأننا أصحاب قضيةٍ وحقوق، ويمكن أن نعتمد على أنفسنا الحرّة ونتشارك في تحمل المسؤولية عن صياغة قراراتنا.
لا أعتقد أننا في لحظةٍ أكثر إلحاحاً على ممارسة السياسة التي تشاركْنا جميعاً، بشكلٍ أو بآخر، في تغييبها، ناهيك عن مسعى النظام الأسديّ الذي خنق المجتمع كاملاً. لأن غياب السياسة، بمعنى غياب الناس عن المشاركة في الدفاع عن مصالحهم وحقوقهم، لا يعني سوى أمرٍ وحيدٍ هو إطالة عمليات قتلنا.