«الدولة» التي تحبّ الرعايا
على خلاف سيرتها المعتادة، خيّبت داعش توقّعات ومخاوف متابعي أخبار سيطرتها على تدمر. فلم تسلك في هذه المدينة على مجرى أدائها الوحشيّ الذي بات مشتهراً، والذي كان يجري على قدمٍ وساقٍ في مجازر يوميةٍ حصدت عشرات الشبان في دير الزور، بتهم التآمر على التنظيم أو الانتماء إلى الجيش الحرّ أو العمالة للنظام، في الوقت نفسه الذي كانت داعش تقتحم فيه تدمر، وتقتل «الأعداء المشروعين» في أيّ عملٍ حربيٍّ، من جنود النظام وعناصر دفاعه الوطنيّ ومخبريه، ثم تتوقف بعد غلبة الظنّ بانتهاء هؤلاء، وتدعو الناس إلى العودة إلى حياتهم الطبيعية والخروج إلى أعمالهم و«أرزاقهم»، بينما ينشغل التنظيم بإعادة ضخّ المياه وتشغيل شبكة الكهرباء واستقدام الخضار من الرقة.
ولكن الأمر الذي غاب عن أذهان المتوقعين والمتخوّفين، وأدّى إلى استغرابهم من هذا السلوك الداعشيّ الهادئ نسبياً، وإلى تبنيهم رواياتٍ غير صحيحةٍ عن قيام التنظيم بمجازر في حقّ المدنيين –وهو الأمر الذي نفته تنسيقية تدمر-؛ هو أن هذه المدينة هي أوّل تجمعٍ سكانيٍّ كبيرٍ يستخلصه التنظيم من النظام مباشرةً، بعد طول تحريرٍ للمحرّر، وقضم مساحة ما يسيطر عليه الجيش الحرّ والكتائب الإسلامية ويشيع فيه نمط حياة الثورة.
هناك، حيث الحواضن الثورية، تشتغل مجسّات داعش الأمنية بأقصى درجات الطاقة والحذر، فالأرض مليئةٌ بالأعداء؛ من مقاتلين وإعلاميين وناشطين مدنيين وخدميين وصحيّين... إلخ. كلّ هؤلاء أعداء داعش التي تكره الثورة أكثر مما تكره النظام، والأدلة على ذلك كثيرة.
يستقيم مع داعش أكثر أن «تستلم» شعباً من الرعايا، لم يخرجوا من قمقم القمع إلى آفاق الحرّية. وما عليهم سوى أن يستبدلوا قمعاً بقمع، وأن يخلعوا قالب «الإخوة المواطنين» ويرتدوا عباءة «عوامّ المسلمين»، ويخرجوا إلى أرزاقهم وأعمالهم ومعايشهم!
السجن الذي لن تحتاج إليه داعش
لا ذاكرة للتنظيم مع سجن تدمر. بخلاف حبل السرّة الوطيد الذي يصله بسجن بوكا وسواه من السجون العراقية، وسجن صيدنايا السوريّ بدرجةٍ أقلّ. فالأغلبية الساحقة من نزلاء تدمر هم أعداء التنظيم، من إخوانٍ مسلمين أو يساريين. وإذا كان السوريون قد تفاعلوا بشكلٍ واسعٍ مع سقوط هذا السجن الرهيب –على خلافٍ بينهم حول الموقف من الجهة التي أسقطته- فقد كان موقف داعش شديد البرود تجاه هذا الموضوع. نشرت أولاً بضع صورٍ، ثم بثّت جولةً لدقائق معدودةٍ في السجن العسكريّ الخاصّ بالمجنّدين الفارّين والمخالفين لأنظمة الجيش أساساً، لا السياسيّ الذي ينصرف إليه المعنى عند الحديث عن سجن تدمر. وعلى خلاف الاحتفاء البصريّ والعناية الإبهارية المقصودة للتنظيم في كلّ حركاته وسكناته مهما ضؤلت أهميتها، جاء التصوير داخل السجن متسرّعاً ويفتقر إلى الحدّ الأدنى من الاهتمام. وأخيراً، فجّرت داعش السجن! هكذا ببساطةٍ. دون حتى أن تعلن أنها فعلت ذلك لأنه «رمزٌ للقمع والمهانة البشرية»، كما يحاول بعض داعشيّي الهوى من المحللين والكتاب والفايسبوكيين أن يبرّروا، دون توكيلٍ من التنظيم، بل تبرّعاً من عند أنفسهم وتبعيةً مجانيةً للجنون.
فلو كان هذا التبرير صحيحاً لكانت فروع الأجهزة الأمنية –في الرقة، مثلاً- قد سبقت السجن إلى مصيره المتناثر في الهواء. والحال أن هذه المباني صارت مقرّاتٍ ومحاكم وسجوناً للتنظيم، ولم تختلف عليها الوظيفة بل الإدارة. تماماً كما تريد داعش من أهالي تدمر.
وبالفعل، لا يحتاج التنظيم إلى سجنٍ كبيرٍ ومستدامٍ كهذا، بل إلى محطّات توقيفٍ صغيرةٍ سرعان ما يغادرها معظم نزلائها إلى سكاكين وسواطير الإعدام والصلب وتعليق الرؤوس في الساحات.
سخيفٌ ومؤلمٌ أن نضطرّ إلى المقارنة بين إجرام حافظ الأسد، الذي شهد سجن تدمر أيام ذروته في عهده، وبين إجرام داعش. ولكن، على الأقلّ، خرج من سجن تدمر الرهيب آلافٌ من ثبتت عليهم تهم الانتماء إلى أحزابٍ سرّيةٍ مناوئة، وبعضهم الآن من أركان الثورة أو المعارضة السياسية، فيما تقتل داعش من تتهمه بإحراق بقايا سيارةٍ للحسبة كانت قد انقلبت وصارت ركاماً على جنب الطريق!
لا تأبه داعش لعذابات من قضوا في سجن تدمر السنوات الطوال في ظروفٍ لا تصدّق من القمع، لأنها لو قبضت عليهم لقتلتهم بتهمة الردّة، وهي تهمةٌ توجب القتل لدى التنظيم بشكلٍ أولى من تهمة الكفر التي تطال السجّانين!