التعايش والاعتياش
علي خطاب
منذ أن اكتشفت أجهزة التنظيم مشاركة عناصره في إدخال الدخان إلى مدينة دير الزور؛ غيّرت هذه الأجهزة سياساتها تجاه المدنيين، ابتداءً من الحواجز الجديدة التي تستقبل الداخلين على جسر السياسية من الجهة الشمالية. هذه الحواجز مشتركةٌ، تضمّ عناصر مما يطلق عليه التنظيم "جيش الخلافة"، بالإضافة إلى "الشرطة الإسلامية". لكنها لم تعد تكترث كثيراً بالبحث عن الدخان؛ فهي تدقّق في مخالفاتٍ أخرى اكتشافها أيسر بكثيرٍ، أهمها حلق اللحية وإطالة الشارب وتطويل الإزار، بالتزامن مع أوامر تمنع تفتيش المدنيين دون مهمةٍ رسمية. ويساق المخالفون المعتقلون إلى حفر الخنادق في نقاط الاشتباك مع النظام في أحياء المدينة، فيعملون لثلاثة أيامٍ لوقتٍ قد يصل إلى عشرين ساعةً في اليوم، أو يتلقون عشرين جلدةً مضاعفةً "يتقطّع بيها الكبل"، كما يصف أحد المفرج عنهم. إن إهمال الجانب الدعويّ في السجون، الأمر الذي ركّز عليه التنظيم في السابق، والاعتقالات بالجملة التي تشنها أجهزته اليوم، دفعا الكثيرين إلى الشك في نواياه. إذ يرى إعلاميون في المدينة "أن العقوبة ليست بسبب المخالفات، لكن حاجة التنظيم إلى عاملين بالسخرة هي ما دفعه إلى تفعيل هذه القوانين". يقول أحدهم: "نحن نعرف نقاط الاشتباك في المدينة جيداً، وهي محصّنةٌ منذ أكثر من سنتين، وخنادقها ليست بحاجةٍ إلى الحفر. لكن التنظيم يعوّض بهذه العملية عن نقص المقاتلين لديه، ويشغّل المعتقلين بهذه الطريقة لإيهام جيش النظام بوجود عناصر كثر". لكن مقرّبين من أمراء في التنظيم يقولون إن خطوة تعزيز الخنادق قد تكون لإحكام إغلاق التنظيم المدينة على نفسه، خاصّةً أنها أكثر الأمكنة أمناً، حتى مع وجود طيران النظام. ومعلومٌ أن التحالف لا يقصف المدينة. ومن الجدير بالذكر أنّ مدينة دير الزور أصبحت معتمدةً كأرضٍ "خارج الخارطة"، إن صحّ التعبير، بالنسبة إلى شخصياتٍ مهمةٍ في التنظيم وعناصره من المهاجرين الذين ينتمون إلى ستٍّ وأربعين جنسيةً. فقد نقل عن أمنيين لديه أنّ اجتماعاتٍ على مستوى عالٍ تعقد فيها، كاجتماعات الأمنيّ العام في الشام (سوريا) مع الأمنيّ العام في كلٍّ من الرقة ودير الزور. كما أن غرفة عمليات الشام تتخذ اليوم من المدينة مقرّاً لها. يضاف إلى ذلك أن شخصياتٍ كبيرةً في التنظيم، تعرّضت للإصابة في وقتٍ سابقٍ، تقضي نقاهتها فيها. الأمر الذي يفسّر غارات طيران النظام الليلية، والتي تبدو خارج أيّ سياق، لكنها في الحقيقة تستهدف تجمعات قادةٍ، يدخلون المدينة بزيٍّ مدنيٍّ عن طريق سيارات نقلٍ عمومية، بحسب ذات المصدر. من نافلة القول أن الغارات لا تصيب أهدافها، لكنها تبيّن إلى أيّ مدىً وصل الاختراق الأمنيّ داخل التنظيم. وقد علق الكثيرون، في وقتٍ سابقٍ، آمالهم على التنظيم، بغضّ النظر عن رأيهم فيه أو موقفهم منه، ورأوا فيه مخلّصاً من النظام. وهم اليوم يعيدون حساباتهم، إذ صاروا يرون أن حربه مع النظام غير جدّيةٍ، في دير الزور على الأقل. وأنه، بالمقابل، يسوق شبابها إلى معارك لا ناقةً لهم فيها ولا جمل، يحاول الكثيرون منهم التهرّب منها بأيّ شكل، حتى وصل الأمر إلى انسحاب البعض الكيفيّ إلى قراهم، واشتباك بعض المنسحبين مع الدوريات القادمة لاعتقالهم، كما حدث في قرية الزر منذ أيام. وتأتي الأرقام لتؤكد ذلك، فبحسب مصدرٍ من داخل التنظيم، تجاوز عدد القتلى المبايعين من محافظة دير الزور، منذ بدء معارك عين العرب/ كوباني وحتى منذ أيامٍ، 2750 شخصاً، منهم أكثر من 225 من المدينة، التي لم يتقدّم التنظيم شبراً واحداً فيها. تعامل الكثير من المقاتلين، في عموم دير الزور، ومن ورائهم حاضنتهم الاجتماعية، مع التنظيم بواقعيةٍ فجةٍ، وببراغماتيةٍ تصل أحياناً إلى الانتهازية، كان شعارها: "مطار في اليد خيرٌ من عشرة محاصرة" (لتبرير المبايعة لأسبابٍ عسكرية)، واليوم شعارها: "ميتين ميتين" (لتبرير المبايعة لأسبابٍ مادية). وهي ذات الطريقة التي تعامل بها التنظيم معهم، وإن بشعاراتٍ مختلفةٍ، كما يرى معارضوه. لكن حروبه الدونكيشوتية تبيّن أن لا شيء لديه ليخسره، بينما يدفع الأهالي الفاتورة كاملةً. فهل هم مستعدون للمضيّ أبعد من ذلك؟