عين المدينة.. نقول ما ترَوْن

إنها الرغبة المُلحَّة في الاستجابة لحاجات متداخلة، إنّه هاجس مياومة الحدث، والبحث في تفاصيله، وتفكيك عقده، وإعادة بناء الصورة التي تختفي بين شظايا الواقع، وبين ثنايا السرد المتكرر لأحداث تبدو متشابهة وغارقة، في تكرار لا يتوقف، لكنها تواري مساراً يقود أمّة كاملة نحو مصائر ما زلنا – وسنظل – نؤمن أنّها ستتحدد بقوة بشر تحدّوا طيفاً كاملاً من المستحيلات، وما زالوا قادرين برغم تحطم حياتهم على إعادة بناء حلمهم.

إنها أيضاً وببساطة نزعة الصحفي إلى القول، والرغبة في أن نتحدث، والإيمان بحقكم في أن تعرفوا . هذه أسباب "عين المدينة" ومرافعتها عن الاستجابة لتغيرات موضوعية فرضتها قائمة أوبئة لا تبدأ بـ"كورونا" ولا تنتهي بجوائح الأسى السوري المتفاقم في وطن بات ناسه يقاتلون امتداد أيامهم التي لم تعد تتسع لطوابير الخبز.

ليس ثوباً جديداً، مازالت "عين المدينة" ترتدي حلّة حلم الحرية، إنّما هي محددات ظرفية بين الورقي والإلكتروني، وما دمنا قادرين على الوصول فنسلك كل طريق متاح.

ليس خطّاً تحريرياً مغايراً، ملتزمون بما اعتدنا أن نكون، عيناً تلاحق التفاصيل وتبحث عن كل الصورة في كل زاوية من سوريا، تحت حطام المدن التي سواها إرهاب الأسد وحلفائه بالأرض، بين وجوه الناس المنهكة في المدن والأرياف المحتلة، وراء طوابير الهموم، وأمام مشاهد انحسار الحياة إلى لقمة ولحظة دفء، بين وحول المخيمات، وتحت أشجار الملاجئ، بين سطور و"شخبطات" أطفالنا على دفاترهم، عند حرقة أصابعهم التي ينهشها برد الفقر وحسابات الورق والقلم، في زمان طاغية حوّل التعليم إلى رحلة عذاب تكتظ بحسرة عقول لامعة ترسم مدناً حرة تستجرها من أحلامها التي لاتخبو. و قبل ذلك، عين خاشعة عند قبور الشهداء، وحرائق أرواح أمهات وآباء المعتقلين.

لماذا اليوم؟

لأنه ذكرى أحد أسوأ أيام دمشق عبر تاريخها الطويل، لأنه ذروة في تلفيق وتزوير التاريخ، وجرف هاوية سحيقة سحبت سوريا برمتها إليها؛ وهي تهوي يوماً بعد يوم على مدى نصف قرن من الفشل السياسي والاقتصادي وبرامج تمجيد الفقر والانعزالية؛ التي محقت حياة أجيال وأجيال من السوريين بين سجون حافظ الأسد وابنه، وبين مذابحهما المعلنة والسرية الموجهة.

لأنّه يوم تبني عقيدة التزوير وتأليه السفاح، يوم تلبّس تاريخاً مزيفاً واسماً مزيفاً ونوايا مزيفة، فانقلاب مهزوم على رفاقه المهزومين؛ والذي دام 13 يوماً وانتهى قبل إعلانه بثلاثة أيام اختير له يوم 16 تشرين الثاني 1970 ليتحول إلى "حركة تصحيحية"؛ ليست في الواقع سوى حرب أهلية في قاعة مؤتمر قيادة حزب البعث، انتهت بتموضع الأسد في قصر المهاجرين وغياب الباقين في سجون لعقود خرجوا منها جثثاً ميتة أو حية.

لماذا الآن؟

لأنّه كأيّ يوم منذ قيام الثورة السورية، وقت إنكار الطغيان بكل صروفه، في أصله الذي جذره نظام حافظ الأسد وورّثه لابنه السفاح، وفي اشتقاقاته التي تقتات على جيفته تحت شعارات تدعي مناهضته وتسعى لبناء نسخ أكثر تشوها عنه.

لأنه دورنا نحن السوريين في إبقاء ذاكرتنا نشطة، وفي إبقاء حلمنا مضاء في آخر نفق الاستبداد، في زحام السعار الديموغرافي الإيراني، وهوس التطييف ودمغ المجتمع عنوة بما ليس فيه، تحت غبار القصف الروسي الوحشي لإعادة بناء امبراطورية متوهمة لمافيا الصواريخ وأسلحة الدمار الشامل.

لأنّ سوريا المتيبّسة كجسد اختنق بالسارين، والمنفية عن ذاتها بملايين المهجرين واللاجئين والنازحين، والفقيرة كعملتها المتهالكة، والمعتلّة بكل أوبئة الطغيان والوحشية والطائفية المنهجية.

لان سوريا هذه وطننا المحتل بغيبيات دموية وأيديولوجيات قاتلة.

ولأننا سنظل نقول إنّ السوريين أمة أحرار؛ تليق بهم الحرية والسيادة الحقة والرفاه، مهما بدا الأمر بعيداً كرغيف خبز في نهاية طابور الجوع.

لأننا نرى بعينكم، لن نغمضها على وهم الاستحالة وستظل هذه المحاولة المتواضعة مستمرة مادمنا قادرين على القول.